اقتصادالاقتصاد الدولي

الصين فهمتها مبكراً

البعث ميديا || جواد طالب علي – بكين:

منذ عدّة أيام ‏لم يعد يشغلنا إلا مايحصل بين روسيا وأوكرانيا وبدأنا نعيش حرباً جديدة على وسائل الإعلام ..حرب ٌ يقولون أنها عالميةٌ ثالثةَ….تصريحاتٌ هنا وتصعيدات هناك وحشدٌ للقوات ومناورات مرعبة وإخلاءٌ للمنازل وتهديدات جديدة في كل وقت، ودول تصعّد وأخرى تترقب، ماذا يحصل؟؟ وهل حقّاً قد تشكّل أوكرانيا تهديداً للعملاق الروسي؟ لما ؟ ومن المستفيد؟ وماهي علاقة القوى الكبرى بهذا النزاع؟
مايحصل في الحقيقة هو أكبر من مجرّد حربٍ بين بلدين حدوديين وخاصّة ان كان أحدهم قادرعلى ابتلاع الآخر حرفياً في غضون أيام ان لم تكن ساعات.
حُكْمُ العالمِ بأنبوب غاز بطول 1230 كم، نوردستريم 2 ، هذا مايحصل.
تستهلك أوروبا نحو 400 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، تُصدِّرُ منها روسيا حوالي 200 مليار متر مكعب سنوياً لتكون بهذا أكبر مصدر للغاز في العالم والمصدر الرئيسي للقارة العجوز، حيث يوفّر الروس حوالي 40% من احتياجات الغاز للأوربيين ولكم ان تتخيلوا ان دولة بحجم ألمانيا تعتمد على مابين 50%-75% من استهلاكها على الغاز الروسي.
وبتهديد واحد من القيصر قامت روسيا بخفض صادراتها من الغاز العابر الى أوربا عن طريق أوكرانيا بنحو23% الأمر الذي أدى الى رفع فاتورة الطاقة في أوروبا ورفعها الى 15% وامتلأت الخزانة الروسية بالقطع الأجنبي بشكل قياسي وصل إلى 630 م مليار دولار.
كل هذا كان يحصل عن طريق خط غاز نوردستريم 1 الذي يعتبر أطول أنبوب في العالم (1200كم) ، كما أن الروس اعتمدوا على خطوط أخرى تمر من تركيا وأوكرانيا وبولندا والتي يبدو اليوم ان الروس يريدون الاستغناء عن تلك الخطوط وعن دفع رسوم عبور الغاز فيها، الأمر الذي قد يكلّف أوكرانيا خسارة مقدارها 3 مليارات دولار سنوياً، وكل هذا سيكون عن طريق بدأ تشغيل خط نوردستريم 2 المملوك للحكومة الروسية بنسبة 50% بتكلفة لم تتخطى 11 مليار دولار لتدر على روسيا 15 مليار دولار سنوياً اذا ماتم العمل بها، ليكون بذلك قد أحكم بوتين سيطرته على الغاز الأوربي الذي قد يتلوه تبعية سياسية لموسكو.

ماذا يعني كل ذلك؟ هنا قلنا ان الصين فهمتها مبكراً ” فمن أراد حكم العالم حكمه بالاقتصاد والمال، لا بالسلاح ولا بالعتاد”.
الصين التي لم تكن يوماً بلد معتدٍ او محتل لغيره، التي لم تستخدم ترسانتها العسكرية لرعب العالم والتي لم تطلق رصاصة واحدة في سبيل تحقيق ماوصلت إليه اليوم، فمن بلد فقير يتقاسم فيه أبناء العائلة الواحدة رغيف الخبز وقطعة الملابس وبلدٍ عانى من الفقر والجوع والاحتلال إلى أكبّر مصدّر في العالم وأكبر احتياطي نقدي في العالم وأعلى معدّل نمو في العالم كما تأتي ثانيا كأكبر مستثمر في أدوات الدين الأمريكية بنحو 1.2 تريليون دولار، بحسب بيانات وزارة الخزانة الأمريكية، وقاب قوسين أو أدنى من أن يكون أقوى قوّة اقتصادية عرفها التاريخ.
خلال سبعين عاماً فقط فهم الصينيون أن النهضة تكون بالإنتاج والعمل المتواصل والإخلاص للوطن أولاً وأخيراً، وأن الرخاء يكون بالمنفعة المشتركة وتكوين الصداقات، ليقود الحزب الشيوعي الصيني ثورة على الإقطاع والجهل والفقر وليشكّل نهضة اشتراكية ذات خصائص صينية لم يلتزموا فيها بالمبادئ الأساسية الماركسية فقط ، ولكن اخترقوا باستمرار الفهم العقائدي للاقتصاد الاشتراكي التقليدي، بل أثروا الاقتصاد السياسي الماركسي وطوّروه في اتصال وثيق مع الواقع الصيني، لتغدو تجربةً كانت الأولى من نوعها عملت على دمج الإنتاج والاستثمار بمفهوم مركزية الدولة لتغدو نواةً لتنين اجتاح العالم بإنتاجه وعمله ونهض بشعبه ليصل الى ماهو عليه اليوم.
منذ 1978 تميزت مرحلة الانفتاح على الرأس مالية بإدخال إصلاحات جذرية على الاقتصاد وذلك بالسماح بإنشاء مقاولات خاصة وتحديث الصناعة والسماح بالملكية الخاصة للأراضي وجلب التكنولوجيا الغربية، ليسمى هذا بالخصائص الصينية التي أخذت إيجابيات كلا الاشتراكية والرأسمالية ودمجتهما وفقاً لاحتياجات الصين.

وأنت تقرأ هذا المقال انظر الى بيتك او غرفتك او مكتبك او شارعك أو حولك في أي مكان وحاول أن تعدّ كم قطعة موجودة فيه كتب عليها” صنع في الصين ” وستفهم ماأعنيه.
يقول الكاتب دينغ ماوجان في إحدى مقالاته: ” في الأيام الأولى لتأسيس جمهورية الصين الشعبية ، اخترنا نظامًا اقتصاديًا مخططًا. وفي ظل الخلفية في ذلك الوقت ، كان هذا ضروريًا لتعبئة الموارد بسرعة وتعزيز أسس التنمية، ومنذ الإصلاح والانفتاح ، استمر تعميق فهم حزبنا للعلاقة بين التخطيط والسوق، حيث أننا لم نلتزم فقط بالنظام الاشتراكي الأساسي خلال إصلاحات عميقة وواسعة النطاق ، بل قمنا أيضًا بتطوير اقتصاد السوق بشكل إبداعي في ظل الظروف الاشتراكية ، وتحرير قوى الإنتاج الاجتماعي وتطويرها باستمرار ، وتعزيز القوة الوطنية الشاملة ، ورفع مستويات معيشة الناس ، و أدركنا بشكل أفضل المهمة المركزية للبناء الاقتصادي.”
بعيداً عن الكلام النظري والتاريخي وبلغة الأرقام لواقع الصين اليوم ، استهلت الصين 2021 بنمو ضخم في الصادرات والواردات وتحقيق فائض تجاري، ففي الفترة التي عانى منها العالم بأسره من جائحة كورونا وأثرها الاقتصادي السيء، عرف الصينيون كيفية مواجهة تلك الجائحة والتصدي لها وتحويلها من كارثة إلى منفعة فخلال شهري كانون الأول وشباط 2021 ارتفعت صادرات الصين بنحو 154.9% على أساس سنوي في شباط الماضي، في حين ارتفعت الواردات 17.3%، وهي أكبر زيادة منذ تشرين الأول 2018، في حين ارتفعت وتيرة واردات النفط الصينية 4% في الفترة ذاتها بفضل طلب قوي على الوقود.
وسجل حجم التجارة الخارجية للصين رقما قياسيا جديدا في 2021، حيث تجاوز ستة تريليونات دولار أمريكي للمرة الأولى، على الرغم من التأثيرات المستمرة الناجمة عن جائحة كوفيد – 19 على التجارة العالمية.
وبلغ إجمالي حجم تجارة السلع 6.05 تريليون دولار أمريكي، بزيادة 1.4 تريليون دولار مقارنة بعام 2020 ، وفق ما أظهرت نتائج بيانات رسمية أصدرتها الهيئة العامة للجمارك.
ونما حجم التجارة المقومة باليوان بنسبة 21.4 في المائة على أساس سنوي، ليبلغ 39.1 تريليون يوان، وعلى وجه التحديد، زادت الصادرات 21.2 في المائة، لتبلغ 21.73 تريليون يوان، وارتفعت الواردات 21.5 في المائة، لتبلغ 17.37 تريليون يوان.
وأظهرت بيانات وزارة التجارة، أن الاستثمار في البر الرئيس الصيني من دول على طول مبادرة “الحزام والطريق” ورابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان” ارتفع 29.4 في المائة و29 في المائة على التوالي.
إلى ذلك، تهدف الصين إلى زيادة 200 ألف شركة جديدة صغيرة ومتوسطة الحجم قائمة على العلوم والتكنولوجيا بنهاية 2025، حيث تسعى البلاد جاهدة إلى إيجاد بيئة مواتية لدعم نمو مثل هذه الشركات، وفقا لإشعار أصدرته وزارة العلوم والتكنولوجيا أخيرا.
وعلى وجه الخصوص، ستدعم الصين تطوير قدرة البحث والتطوير للشركات صغيرة ومتوسطة الحجم قائمة على العلوم والتكنولوجيا التي تتمتع بتكنولوجيات رئيسة والعاملين في مجال البحوث وحقوق الملكية الفكرية عالية القيمة ومدخلات عالية للبحوث، وفقا للإشعار.

وفي الوقت نفسه، سجلت تجارة البلاد مع الاقتصادات المشاركة في مبادرة “الحزام والطريق” زيادة بنسبة أعلى من المتوسط حيث نمت بمقدار 23.6 في المائة.
الحزام والطريق بفرعيه البّري والبحري الذي شكّل خط التجارة الرئيسي للعالم منذ قديم الزمن والذي عُرِفَ بطريق الحرير…تعود اليوم الصين لإحيائه وربط دوله ببعضها اقتصادياً ومالياً والذي قد يكون نواة أضخم مشروع اقتصادي على وجه الأرض وليعود على دوله بالمنفعة المشتركة والازدهار…بالإنتاج والعلم والعمل وضعت الصين نفسها ضمن الكبار وتهدد اليوم عرش القطب الأوحد وتكاد تطيح به وتُري العالم أن الاقتصاد هو الحل والطريق وليس الرصاص.
لذلك كانت الصين أول من فهمها.