لماذا روح الثورة مستمرة؟
د. عبد اللطيف عمران
لم يكن مفهوم الثورة في القرنين الماضيين ملتبساً وإشكالياً كما هو الآن وتحديداً بعد عام 2010، فقد أسهمت الأحداث المرافقة لما سميّ بـ (الربيع العربي) والذي يصحّ معه تماماً تفسير أحداث التاريخ والواقع على ضوء (نظرية المؤامرة) على الرغم من عدم تجاهلنا لعامل القصور الذاتي، أسهمت في مزيد من الإشكالية والالتباس في تعريف الثورة، بالرغم من وجود شيء معروف في السرديّة السياسيّة وفي التاريخ والواقع اسمه (الثورة المضادّة).
ويمكن بيان الرأي والحقيقة في هذا الجانب في إعادة النظر في وقائع عدد من الثورات في التاريخ العالمي الحديث سواء في الثورة الفرنسية، أو في ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917، وثورة تموز في مصر عام 1952، وثورة البعث في سورية في آذار 1963، كذلك من مقارنة هذا مع ما جرى ويجري في عدد من الأقطار العربية من ثورة مضادة ضد منجزات الثورات الحقيقيّة التي أنجزتها، وأنجزت هي بدورها، حركة التحرر الوطني والاستقلال العربيّة.
في سياق المقارنة من المهم أن ننظر في واقع المفارقة من منظور الجيل التالي، مع توجّه المجتمع والدولة في سورية نحو ضرورة تجديد وعي الثورة وتطويره من خلال إدراك ما يفرضه التفاعل الناجح مع معطيات الألفية الثالثة والذي تمثّل في قول السيد الرئيس بشار الأسد الرفيق الأمين العام للحزب في آذار 2003: (إن العمل بمنهج ثورة الثامن من آذار: لا يعني العمل بظروف ومعطيات ذلك اليوم فهذا جمود في المكان وتراجع وتخلّف، لكن هذا لا يعني في الوقت نفسه نسف كل ما تحقّق بحجة التقدّم، إذ يجب البناء على ما تقدّم مع إدراك الظروف الراهنة والمستجدات) وهذا القول مهم جداً حين التساؤل المشروع عن إمكانية العمل لإدماج (أجيال اليوم والمستقبل) مع الأدبيات السياسيّة والحزبيّة والتاريخ النضالي الوطني لسورية الحديثة والمعاصرة. هذا الادماج هو موضع تساؤل اليوم.
فنحن اليوم في لحظة تاريخية نادرة تعيد الألق والحضور لأفكار البعث وطروحاته الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة أيضاً، فبعد ثلاثة عقود من التبشير بنهاية الإيديولوجيا والترويج لأفول الأحزاب العقائديّة يسجّل المشهد الدولي بروز تقدم واضح وفاعل للاستراتيجيات الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة في سورية واليمن وروسيا وإيران والصين والهند…، وعودة إلى الروح الجماعية الأصيلة في الأمم المتجذّرة حضارياً، بعيداً عن مخطّطات ومشاريع الإلحاق الثقافي والاقتصادي والسياسي، وعن الشوفينية والتطرّف والعنصرية، في سياق النضال المشترك للتصدّي لنظام العقوبات أحادية الجانب وللضغوط الأمنيّة والتحريض على النزعات الانفصاليّة داخل البلدان المتمسّكة بسيادتها واستقلالها ومناهضتها لهيمنة أحادية القطب… لنكون في طليعة من يهيل التراب على نظام عالمي مهترىء، ولنعمل بصمودنا وتضحياتنا على ولادة عالم جديد أكثر حرية ومساواة وعدالة.
ولعلَّ مناسبة الذكرى 59 لثورة آذار المجيدة مثال ساطع وبنّاء في هذا السياق من المقارنة، إذ أنجزت تلك الثورة تحولات نوعية وإيجابية في السياسة والاقتصاد والمجتمع وفي الوعي الفكري والانتماء الوطني تنعّمت بها أجيال إلى يوم الناس هذا، في وقت لم تكن فيه بعيدة عن المراجعة وإعادة النظر، فها هو القائد التاريخي حافظ الأسد وهو أحد أهم رجالات تلك الثورة يقول منذ نصف قرن مضى:
(ولئن كانت الثورة قد تعثّرت في مسيرتها، وعانت من الصعاب والعقبات فذلك لأنها واجهت التحديات والأخطار الخارجية والمصاعب الداخلية في آن واحد، فقلّما تعرّضت ثورة لما تعرّضت له ثورة الثامن من آذار بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي)، لكن تلك التحديات وللحقيقة والواقع هي أقل وطأة وانعكاساً سلبياً على البشر والحجر والشجر مما حدث بعد عام 2010 .
لكنّنا اليوم أمام سرديات مضادة مدعّمة بالبترودولار وبما موّله ويموّله من أقلام مأجورة وميديا ومرتزقة ومراكز أبحاث تخدم الإرهاب والتطرّف، تضخّ سموماً تنعكس أخطاراً ودماراً على المنجز سابقاً من وعي وانتماء ووحدة وطنيّة، وخدمات متميّزة للبنى التحتية والفوقية صارت كلها في مرامي أهداف مفرزات الاستعمارين الجديدين العثماني والصهيوأطلسي، تلك الأهداف والأفعال التي قال فيها الرفيق القائد بشار الأسد في مقابلته مع صحيفة الثورة عام 2013: (هذا لا يمكن أن يُسمى أي شيء آخر غير الثورة المضادة).
واليوم . . . اليوم الذي نحارب فيه العدوان على أرضنا وحقوقنا وهويتنا ووعينا أيضاً، وتدفع جماهير شعبنا وحزبنا ضريبة لا تقدّر بثمن عرفه التاريخ من صمود معجز، ومن إمكانيات كبيرة مدَّخرة سابقاً بالعرق والدم، مادية ومعنوية توّجتها دماء عشرات آلاف الشهداء البررة، والجراح النازفة لعشرات آلاف المناضلين من قواتنا المسلحة على امتداد ساحات الوطن، لتجدّد الثورة على الإرهاب والتطرّف، على المؤامرة الصهيوأطلسيّة – الرجعيّة العربيّة والعالميّة، والتي لم يعد نكرانها ونكران منعكساتها صحيحاً أبداً، تجدداً مستمراً فاعلاً سيعقبه بمنطق الحق والتاريخ الانتصار القريب العاجل والأكبر.