مخلب حزين
لدينا جارٌ عاشق وولهان، لا ينام ولا يدعنا ننام أيضاً، يقضي الليالي الباردة وهو يقف على الشرفة يغني ويصفر بأسى.
يروح ويجيء وهموم الحب التي يزفرها من تحت شاربيه، تصل كشكوى طفل صغير جائع أو موجوع.
له مدة بلا أي طعام، فإلى جانبه سمكة متذمرة من جمود حالتها، وثمة فرخ عصفور صغير وقع عليه قبل أن يقع على الأرض، بلا أدنى اهتمام نظر جارنا اليه ثم أبعده عن طريقه وعاد للغناء الذي صدّع به رؤوسنا، دون أن تشغل باله “فردات” الأحذية البالية التي رحنا نحاول أن نشغله بها عمّا يحزنه.
انقلاب حاد المزاج طرأ على جارنا منذ يومين، في البداية بدأ يصل ليله بنهاره، بعد أن كان يختفي طيلة النهار بجانب أحد الأسطحة أو منبطحاً بجانب دولاب سيارة، تغير صوت أنينه ونجواه من مواء طويل ومتقطع إلى مواء أجش وغليظ ومزعج، وبعد استبيان السبب، تبين لنا أن أحوال جارنا انقلبت بعد مجيء جار جديد، استأجر الشرفة المقابلة واستوطن الدرابزين يتسقط أخبار منافسيه.
جارنا الجديد أكثر وسامة وفتوة، له وبر أبيض طويل، شواربه مفتول آخرها وذيله منفوش وكأنه خرج من تحت مجفف الشعر لتوه، يمشي بثقة عالية دون أن يلتفت إلى الخلف، كلما سمع صوتاً ما.
اليوم استيقظنا على حرب حامية الوطيس،”تنتفت” فيها الشوارب والمخالب، طارت الأجساد والتفت على حالها قبل الارتطام بالأرض، الزعيق ملأ الأرجاء، وعلى الأرض وقع مخلب أحدهما، يا له من مخلب حزين.
حاولنا فض الاشتباك، فرقنا بينهما، قلنا لا يجوز يا جماعة أنتم جيران، لكن “عبث”، يرتاحان قليلاً وهما يلتقطان أنفاسهما بصعوبة، ثم وبلحظة واحدة يعاودان الاشتباك وكأنهما الزير وجساس، دون مراعاة لأي حالة تستحق المراعاة في الحارة التي ملأها ضجيجهما.
فوق خزان مياه فارغ، يعكس أشعة الشمس الواهنة، وعلى جدرانه تتلاعب ظلال شجرة كينا، أوراقها على هيئة أسماك ظليلة، تمددت جارتنا، بسطت يداها وقدماها، وراحت تتقلب بغواية على سطح الخزان، ثم تنتصب على أربعتها وتمشي بدلال وذيلها الطويل يبدو وكأنه يحمل مظلتها.
الجارة تموء وكأنها تغني “فيغارو” وفوق رأسها تحوم أرواح بضعة عصافير كما أفلام كرتون،كانت قد جاءتها هدية من جارنا الأول،- لكن وكما هي العادة، فاز جارنا الجديد بودّها وب “بسوسيتها” -من عيار أنوثتها-،رغم أنه لم يقدم لها أي هدية، ولا حتى رأس سمكة!
لكنه كان -أي جارنا الجديد- أثناء معاركه ينظر بين الفينة والأخرى إليها وهو منفوخ الصدر متورم الوجنتين، يتنفس بهدوء، بينما غريمه تكاد أنفاسه تتقطع وهو يحاول أن يبتسم لنا ونحن نلتقط له صورة، وعدناه أنها للذكرى فقط، وكنا وعدنا أيضاً جارنا الأول ونحن نلتقط له صورة الخاسر، أننا لن نفضح فيها خسارته على وسائل التواصل الاجتماعي باعتباره لا يحبذها، اللهم ماعدا “التويتر” وربما السبب هو “اللوغو” الذي على شكل عصفور ويحمله المذكور.
المعارك الصاخبة هدأت نسبياً، وجارنا القديم لم نعد نلمحه على الشرفة، إلا أنه لم يغادر الحي تماماً، ففي قلبه ضربة مخلب هتكت مشاعره وحجابه الحاجز، وكما تعلمون هزائم الحب، ليست قاتلة، ربما تكسر الظهر، لكنها لم تعد قاتلة، وهذا ما حدث مع جارنا صاحب المخلب الحزين.
تمّام بركات