ثقافة وفنمجتمع

أم بسام

 

الغيم المتجمع بالسماء، يجعل لوهلة الخلط قائماً بين من يظن الوقت فجراً، أو إنه الغروب؟ الطريق الصاعدة بتعرجات حادة في الجبال، تفضي إلى قمتين، واحدة منهما أم بسام، وأما الثانية فإلى مزار نبي بعيد.

كما لو أنها من الأشجار، تقف أم بسام خلف تنورها، تمسح أطرافه بخرقة مبللة، وهذا آخر ما تقوم به قبل أن ينتهي يوم عملها الطويل والشاق، إنها تستيقظ في الرابعة فجراً، تُعد العجين، تجمع الحطب، توقد النار، وتبقى حتى الخامسة مساء ترق العجين وتخبز الفطائر، وإلى جانبها رجل عجوز، يلف الفطائر الساخنة بالورق، ويحاسب الزبائن، وحين وصلنا كانت قد انتهت من توضيب المكان، إيذاناً بخلودها إلى بيتها.

كنا نريد أن نأكل ومعنا صبي صغير جائع، لكن أبا بسام أخبرنا بكل كياسة أن العجين انتهى ونار التنور انطفأت، وإن بدا فيها الجمر يتلظى تحت الرماد، وعندما أبلغناه بأن ثمة طفلاً جائعاً معنا، وأننا لسنا من سكان المنطقة، خرجت أم بسام بوجه بشوش خلف تجاعيد التعب “خسى الجوع”.. قالت متبسمة في وجه الفتى، طالبة إلى زوجها أن يضع بعض الحطب في الفرن، بينما تقوم بإعداد بعض العجين، مضى العجوز يرطن بكلام غير مفهوم، لكن نبرة الانزعاج واضحة في صوته، غابت أم بسام قليلاً في البيت، وخرجت ومعها كؤوس لبن، أعطت الصغير الكأس وهي تحثه على شربه ريثما تنضج الفطائر، عاد الرجل بالحطب وعلامات عدم الارتياح تكسوه، فخاطبته بلهجة ودودة: معهم طفل جوعان. ارتخت ملامح القسوة عن وجهه، وعلى وجهها أضاءت نار التنور ابتسامة باذخة العذوبة، “تفضلو ارتاحو وفوتو من المطر”..

كانت أم بسام محرجة بسبب تبرم زوجها بداية الأمر من طلبنا المتأخر للطعام، وراحت تخبرنا عن السبب، ففي البيت ولدها، وهو محتاج لرعايتها، بل إن وجودها كله، منذور له.

في البيت وعلى فراش في صدر الغرفة، يتمدد نادر، شاب في العشرينيات من عمره، لكن ذقنه الكثيفة تبديه أكبر من ذلك، وإلى جانب الفراش، طاولة صغيرة، وقفت عليها العديد من علب الدواء، وطبق طعام مغطى، إنه موعد الدواء، وبينما كانت تعطي ولدها العاجز عن الحركة، الدواء، راح زوجها يعتذر باحترام عن تردده في استقبالنا، فعدا عن تأخر الوقت، فإنهما مشغولان بابنهما، الرجل الذي عاد من الحرب، بإصابة أقعدته الفراش، بعد أن فقد الحركة، “جبناهم وربيناهم ليشيلونا بكبرتنا” قال الرجل وهو ينظر بحزن إلى ولده.

أم بسام وبعد أن باعت كل ما تملك لتصرف على علاج ابنها، قررت العمل، فأسعار الدواء وجلسات العلاج مرتفعة، ولن تنتظر من يقوم عنها بذلك، ظن زوجها في البداية أنها ستتعب بعد فترة قصيرة وتتوقف، لكنها السنة الخامسة خلف التنور، دون أن تتأخر أو تتشاغل أو تمرض.

خفف عمل أم بسام من حزنها على وفاة ابنها الكبير بسام، وساعدها انهماكها اليومي فيه، على تحقيق ما وعدت به ابنها المصاب، “ما بتركك تحتاج حدا لموت”..

ليس لأم بسام صفحة على الفيس، وما من رقم يمكن من خلاله التواصل معها وطلب الطعام، تشعر بالرضا رغم الحزن الذي يلف قلبها، لكنه الحزن المؤجل، فهي مشغولة عنه الآن، كونها أماً لديها مشاغل أمومية مقدسة، ولا قداسة في العالم تطاول قداسة عطاء الأم.

 

تمّام بركات