التّشكيل البصريّ عند الطّفل.. عن أهميّة خلق عوالمه الملوّنة وأبعادها التربويّة
البعث ميديا || هديل فيزو
لا حدود لعالم الأطفال، يفتحون بخيالهم آفاق السّماء بحثاً عن آفاق جديدة، عوالم مشرعة على اللاّنهاية، مطرّزة بألوان الحياة، منسوجة ببراءة لا تخلو من اتّقاد وحكمة، وحتّى استشراف طفولي غضّ، وإن استطاعت الكلمة أن تقارب هذا العالم من خلال الحكاية أو المعلومة، فإنّ للصّورة التي تجسّد هذا العالم حضورها الذي لا يقلّ أهمية وأثراّ في إكساب هذه الكلمة أبعادها وملامحها لتبعث فيها الحياة، وتلوّنها برسومات وصور منسجمة مع المضامين الفكريّة وصولاً لتشكيل رؤية بصريّة هي مكمّلة وأساسيّة..
وإنّما تكمن صعوبة المهمّة في المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عاتق الكتّاب والرسّامين، حين يقترن عملهم بخصوصيّة التّوجه للطّفل، ومحاكاة أفكاره، والإبحار في خيالاته بحثاً عن رسوم موحية تناسب القصة أو المادة المكتوبة وتشكّلها لتقارب ما يريد الطفل أن يراه من صور ورسومات هي في حدّ ذاتها لغة أخرى تعبّر عمّا يفكر فيه ويحسّ به..
فكيف تبني الكلمة جسر عبورها نحو عالم الصورة البصرية، وما هي الوسائل التي يتمكن من خلالها الفنان الرسام أن يكمل بصورته الحكاية ليثير التفاعل الفكري لدى الطفل، وهل من تخصص أكاديمي يعنى بتطوير هذه المهارات الموجهة للطفل..
البحث عن عمل فنّيّ متكامل
لا شكّ أن الاشتغال في مجال الرسوم الموجهة للطفل يعتبر مسؤولية كبيرة، على حد تعبير الكاتبة “أريج بوادقجي”، رئيس تحرير مجلة “شامة”، فحين نتحدث عن الرسم للطفل، فنحن لسنا أمام مسؤولية إبداعية فقط، وليس الهدف تقديم عمل إبداعي فحسب، لكن هناك معايير أخرى مهمة، تربوية، جمالية، بناء ذائقة فنية، تأسيس هوية بصرية، وهي مسؤوليات ليست سهلة على الإطلاق..
وتؤكد بوادقجي، دائماً هناك معاناة مع إيجاد رسام مناسب للنصّ الطّفلي المناسب، بحيث ينتج عمل فني متكامل لا يتجزّأ، فلا يجوز أن نقول إن هذا العمل جيد من حيث النصّ فقط، أو من حيث الرسومات فقط، بل الحكم يجب أن يكون متكاملاً، البعض يستسهل الرسم للأطفال، وبعضهم يعتقد أنه في حال فشل في رسم اللوحة الواقعية، فإنه سينجح في الرسم للأطفال، وهذه الفكرة خاطئة بالمطلق، لأن الرسامين الذين تركوا بصمتهم في عالم الطفل كانوا مبدعين في رسم اللوحة الواقعية ليبدعوا فيما بعد في رسم اللوحة الخاصة بالطفل، فاستطاعوا إخراج الألوان والخيال والطفولة والدهشة التي في داخلهم ليقدموها للطفل..
درءاً للتشويه البصريّ
اللوحات الموجّهة للأطفال هي لغة قائمة بحدّ ذاتها، هذا ما بدأ به الفنان “رامز حاج حسين”، متخصص في كتابة القصص ورسومها للأطفال، حديثه، ليؤكّد أن لهذه اللغة أبجديتها الخاصة في ذهنية المتلقي الطفل، يحلّلها بطريقته ويركّب مفرداتها حسب تخيلاته ومزاجه الغض، لذلك كان واجباً ولزاماً على فنان قصص الأطفال أن يكون متمرّساً ومتقناً لأدوات هذه اللغة ومثقفاً عالي مستوى الاطلاع لتكون لوحاته ذات أثر واضح في هذه النقطة بالذات- أي نقطة بناء ذهنية الطفل ولغته وثقافته – فمن سلبيّات الرسم للأطفال عملية الاستسهال لذهنيته وعقليته السائدة لدى بعض الفنانين المشتغلين في هذا المجال، وكأن لسان حالهم يقول إن أي ما يقدم للطفل مقبول، وأي تشويه بصري يقومون به بحجة التجريد أمر محمود.. الطفل أعقد العناصر البشرية المتلقية للثقافة لذلك وجب الحذر في التعامل معه وخصوصاً على المقلب البصري.
التحليق بالنصّ عالياً
من المهمّ أن تعبّر الصّورة والرسمة عن النص وعن مفرداته وتحاول مجاراة خيال الكاتب نوعاً ما، وفق رأي حاج حسين، لكن الضروري أكثر هو ألا تكون اللوحة مجرد تصوير فوتوغرافي دقيق للكلمات، بل يجب أن تكون تسير على منحى موازي من الإبداع وتحلق بالنص عالياً لترتقي لسوية خيال الأطفال وموهبتهم البكر في التلقي، ويجب أن تكون حاملة لفكرة إضافة مفردات بصرية جديدة تغني ذائقة الطفل ومفرداته الحياتية واللغوية بشكل عام.
الألوان وأثرها النّفسيّ
وحول تفاضليّة الألوان وأثرها، ومدى تعبيرها عن الحالة النفسية للطفل، أوضحت بوادقجي أن اللوحة الطفليّة مكونة من عدة مكونات منها، التّكوين الأساسي الذي يرسم بالأبيض والأسود، التشريح، الإحساس، ومن ثم الألوان، حتى التّحبير له رمزيته، فهناك الخطوط التحبيّرية العريضة أوالخفيفة، الألوان المائيّة، والباستيل، والزيتي، كل نوع من الألوان له إحساسه المختلف، أما بالنّسبة لمشاعر الطفل فهي نسيج متكامل من الإحساس باللوحة بالكامل، بدءاً بالخطوط الأساسية وإحساس الرسام وصولاً للألوان..
بينما أكد حاج حسين على أنه تم إجراء العديد من البحث والتجريب والاختبارات للوصول إلى فهم واضح للأمر، ومازالت التجربة الحياتية العملية تأتي بالمزيد كل مرة من خلال التواصل مع الأطفال وأمزجتهم وثقافاتهم ومحيطهم وسيكولوجيات نفسيتهم كلما أمسكوا الألوان وقاموا بالتعبير عن ذاتهم، ولكن بالإجمال فإن الألوان وأثرها النفسي تتبع لمجموعتين – ألوان باردة (الأزرق ومشتقاته ونظرائه-والأحمر ومشتقاته ونظرائه) ولكن من تجربتي الخاصة، وفقاً لحاج حسين، أرى أن حتى هذه التصنيفات العامة لها تصنيفات وتشعبات دقيقة تتعلق بحالة كل طفل ونفسيته.
فنّ الطّفل في سورية ارتجاليّ!
أما عن أهمية التخصص بالفن الموجه للطفل، أكد حاج حسين أن الدراسة الأكاديمية مهمة، ففن الطفل في سورية هو فن التجربة الشخصية والارتجال، والدراسات الأكاديمية في كليات ومعاهد الفنون قليلة ونادرة في مضمار رسم الكتب للأطفال والرسوم المتحركة، وهذا ضروري للغاية لتخريج أجيال متعاقبة تحمل لواء هذا الفن وتطلع على تجارب الآخرين وتنقي الوسط الفني من المتسلقين في هذا المضمار..
بينما تشير الكاتبة بوادقجي إلى تميز التجربة المصرية في اختصاص الرسم للأطفال، مؤكدة وجود رسامين رائعين في سورية، لكن تميزوا بجهدهم الخاص، وبفضل الرسامين الأوائل في سورية، منهم ممتاز البحرة، ولجينة الأصيل، كما أن هناك أسماء شابة لمع اسمها في الوطن العربي بجهودها الخاصة وبجهود وزارة الثقافة التي تقيم ورشات أدبية فنية، للكتاب والفنانين الذين يرغبون بتقديم إنتاج إبداعي للطفل..
تجربة (سليمان العيسى – ممتاز البحرة).. نموذج يُحتذى
وفيما يتعلق بأهمية رسومات الكتاب المدرسي، ومدى قدرتها على ترك الأثر في المتلقي، أعادنا حاج حسين للتجربة العملية العالية المستوى للراحلين (الشاعر سليمان العيسى – الفنان ممتاز البحرة)، مؤكداً أننا كلنا نذكر في كتبنا الابتدائية والمدرسية في الزمن الماضي- هذه التجربة التي هي الرد على كل من يقول بأن اللغة البصرية أقل قيمة ولا تضفي أي قيمة لمنهاج تربوي أو لغوي ما في كتب أطفالنا، الحريّ والضروريّ هنا أن يكون كتاب أطفالنا كمجلّة مزينة بالصور والرسوم والخيال ليسهل عليه استيعاب المعلومة العلمية وتخزينها طويلاً في مخيلته وعقله.