“نجاح العبد الله”.. حضور في موكب الغياب
ملامح البلاد متداخلة في ملامحها، ما بين الانفراج والقسوة، الفرح والحزن، الرضا والخذلان، اختبرتها الحياة بطفولة قاسية، ليس إلا أحد سفوحها القصية، خساراتها المتكررة لملاعب تلك الطفولة الخيال!، إثر تنقل جغرافي متقارب ومضطرب، فرضه عمل والدها العسكري، وتنقل مزلزل على الصعيد النفسي، فرضه زواج مبكر جداً وقصير من جهة، ومن جهة أخرى، أمومة حاسمة لطبيعة حياتها فيما سيليها من قادم الأيام والسنين، متغيران قلقان، أوديا بمكتسبات الطفولة الباهتة أصلاً في روحها، لقد صارت أماً وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وربما لهذا السبب، جاء دور “الأم” الذي لعبته في العديد من أعمال الدراما التلفزيونية المحلية، متجدداً وفريداً في كل مرة شَخصته؛ حنان ممزوج بقسوة مفهومة، بكاء على قدر بكاء الأم، وحزنها في الألم، فرح مرتاب، مستعد في أي لحظة للتراجع، تحت ضغط ما يشغل بال الأم، استعداد فطري في الطبيعة وأمام الكاميرا للعطاء دون حدود، هكذا جهزتها الطبيعة والظروف، لتكون من نجمات الدراما السورية الأهم، والأقرب من وجدان الجمهور وعاطفته.
ورغم أن الصدفة وحدها، هي من جعلتها تدخل هذا العالم القصي ليس على حياتها المتشظية فقط، بل وعلى تكوينها الحسي والنفسي، الفنانة السورية نجاح العبد لله، والتي حلت البارحة الذكرى ال83 لميلادها-وهي المولودة مع الربيع، في الأول من نيسان1939- كانت يد زميلتها في “ريجي” دمشق، حيث كانت تعمل بداية عقدها الثاني، هي التي دفعتها لتخطو في عوالمه أولى خطواتها، إلا أن ما دبرته الصدفة العجيبة في هذا الشأن الكاشف لموهبتها، سوف تؤكد براعة مذهلة في الأداء، وفي التنويع على مستوياته، أداء صاف، نحتت تفاصيله بأناة وطويلاً، حتى جعلت أدواته طيعة متى طلبتها؛ جسد مطواع لمتغيرات الحالة النفسية بردود أفعاله المنفعلة عنها، المنسجمة معها، وتعابير وجهية متقنة، ترسمها ببراعة عضلات وجه خبيرة، مدربة، رغم أن مظهرها يبدو فطرياً، وهذا عائد للمختبر التمثيلي الأهم الذي خضعت له، خشبة المسرح، وللموهبة التي حافظت على “طزاجة” عفويتها في كل ظهور لها، حتى تحت الإضاءة الساطعة في السينما وفي التلفزيون.
رحلت فنانتنا الدائمة الخضرة في أول شتاء عام 2003، ولديها في سجلها الفني عشرات الأعمال الدرامية السينمائية والتلفزيونية، تاركة حضورها المستمر والراسخ في الدراما المحلية، وكان نصيب الدراما التلفزيونية ومنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، هو الأعلى في رصيدها، خصوصاً وأنها –أي الدراما التلفزيونية- شهدت بداية نهضة إنتاجية مهمة في الكم والنوع، وكان أن حجزت “نجاح” مكانها الخاص فيها، مقدمة العديد من الأعمال المهمة في تاريخ الدراما السورية، وفي أكثر ملامحها خصوصية وغنى، ومن تلك الأعمال “هجرة القلوب إلى القلوب1991/الشريد 1992/حمام القيشاني 1994/ العبابيد1997/خان الحرير 1998/سيرة آل الجلالي 2000/ عمر الخيام 2002/ وبالتأكيد شخصية “ضباع” الأهم والأكثر رسوخاً لدى الجمهور والنقاد على حد سواء، في مسلسل الزير سالم 2000″.
نجاح العبد الله نجمة سورية من الطراز الرفيع، فنانة أعطت مفهوماً مختلفاً وراقياً لمفهوم النجومية، المفهوم الذي صار مرتبطاً بالدلع والجمال، أكثر من تركيزه على الموهبة الحقيقية والحرفية الرفيعة القدر، فكسبت بما قدمت صادقة مخلصة وفية، محبة لا تنكفئ أمواجها، واحتراماً لا تخفت بوارقه.
تمّام بركات