ارتفاع الدولار ينقذ الولايات المتحدة على حساب حلفائها والعالم
يعني ارتفاع قيمة الدولار، في مقابل العملات الأخرى، انخفاض عدد السنتات اللازمة لشراء وحدة واحدة من تلك العملات. وعندما بدأت العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا في 24/2/2022، على سبيل المثال، كانت قيمة اليورو 1.1 دولار أمیرکي. أمّا في نهاية شهر نيسان/أبريل الفائت، فبلغت قيمة اليورو 1.05 دولار، ضمن اتجاهٍ عامّ إلى انخفاض اليورو في مقابل الدولار، على الرغم من تأرجح السعر، صعوداً وهبوطاً، بين يومٍ وآخر. يُذكَر أن اليورو كان يساوي نحو 1.4 دولار أمیرکي عشية استعادة روسيا القرم، وبدء فرض العقوبات على روسيا، في آذار/مارس 2014، ثم بدأ الانهيار الكبير في سعر اليورو.
قد تبدو هذه الفوارق بسيطةً بالنسبة إلى من يتعاملون بمئات، أو حتى آلاف الدولارات في الشهر الواحد. أمّا إذا أخذنا في الاعتبار أن حجم التداول العالمي بالعملات الأجنبية يبلغ 6.6 ترليونات دولار يومياً، نكرر، يومياً، بحسب آخر الإحصاءات الموثوقة، وهي تعود إلى مرحلة ما قبل كورونا، وإذا أخذنا في الاعتبار أن صفقة العملة الأجنبية الواحدة تراوح عادةً بين 200 و500 مليون دولار، وأن ربح الصفقة الواحدة يعتمد على تدوير مئات ملايين الدولارات من عملة إلى أخرى، بكبسة زر، استناداً إلى فوارق أسعار الصرف بين أسواق العملة المتعددة في المنزلتين الخامسة والسادسة بعد الصفر أحياناً، في عدد كبير من المرات في السنة الواحدة، فإن مثل هذا الانخفاض لليورو في مقابل الدولار يصبح قصة كبيرة جداً، كما تصبح المراهنة بالعقود الآجلة لليورو على انخفاضه أكثر في المدى المنظور أحد أسباب انخفاضه فعلاً.
سوق العملات الأجنبية كملعبٍ رئيسيّ لرأس المال المالي
كان الحصول على سعر صرف الجملة في أسواق العملات الأجنبية، منذ عشرين عاماً، يتطلب تبديل أكثر من مليون دولار في الصفقة الواحدة، أمّا مَن كان يدخل السوق بأقل من مليون دولار، فكان يشبه ولداً صغيراً يلبس بنطالاً قصيراً ويلعب في الشارع بالكرات البلورية الصغيرة المسماة “القلول”، أو “البنانير”، لذلك لا يحصل إلا على سعر صرف المفرق.
إنه عصر رأس المال المالي. وتداول العملات الأجنبية المتعددة لأغراض المضاربة، أي للمراهنة في سوق القمار الدولية الكبرى على ارتفاع هذه وانخفاض تلك، بعد حينٍ قريبٍ أو بعيد، بات ملعباً رئيساً من ملاعب رأس المال المالي الدولي. ففي الماضي، كان تبديل العملات وسيلةً، لا هدفاً في حد ذاته، وكان يجري بغرض التجارة أو الاستثمار أو السياحة… إلخ. أمّا منذ بدأت الرأسمالية تتحول أكثر فأكثر إلى مشروع مضارِب، أي مقامر، وربوي، فإن مبادلة شكلٍ من النقد بآخر، أو أصلٍ ماليّ بآخر، باتت الشكل الرئيس، غير المنتج، لنشاطها. وهو ليس غير منتجٍ فحسب، بل يمكن أيضاً أن يرفع عملات واقتصادات وصناعات بأكملها، أو يحطمها، في أيامٍ أو لحظات، بناءً على ما يستقر عليه نرد البورصات المتعددة في أسواق العملات، أو حتى في بورصات البيع الآجل للسلع الرئيسة، مثل النفط والقمح والبن والكاكاو والسكر، وغيرها كثير.
فلْنلاحظْ هنا أن الناتج المحلي الإجمالي، لكل بلدان العالم مجتمعة، لم يكد يبلغ 95 ترليون دولار عام 2021، فما هي الحاجة إلى تداول عملات أجنبية بمقدار 6.6 ترليونات دولار في اليوم، بما يعادل أكثر من 2400 ترليون دولار سنوياً عام 2022، بحسب موقع FOREX؛ الموقع الرئيس المتخصص بالمتاجرة بالعملات الأجنبية.
وهكذا، نجد القيم المالية، مثل العملات الأجنبية، وقد تحولت مجدداً إلى أصولٍ ذات آليات حركة منفصلة عن حركة الواقع الاقتصادي، المتمثل بالتجارة الدولية بالسلع والخدمات (ومنها السياحة)، وبالاستثمار الدولي. ولا غرو، فإن ترليوني دولار فقط، من الترليونات الـ6.6 التي جرى تداولها يومياً، بحسب بنك التسويات الدولية Bank of International Settlements، تُصرَّف فورياً من عملة إلى عملة أخرى، أو “يداً بيد”، بحسب تعبير الفقهاء، أي مباشرةً، أمّا الباقي، فعقود آجلة بأنواعها، ومنها الـforwards، بقيمة ترليون دولار يومياً، وعقود المبادلات بأنواعها swaps، بقيمة 3.3 ترليونات دولار يومياً، ثم عقود الخيار options، بقيمة بضع مئات من مليارات الدولارات يومياً.
كل هذه الأخيرة، بالمناسبة، اسمها “مشتقات مالية”، أي أصول مالية مشتقة، مرتبطة بالعملات الأجنبية. وهناك من الفقهاء من يدينها ويحرّمها، باعتبار أن مبادلة مال بمال آجل ربا، وربما يكون في ذلك بعض الصحة، وإنما جوهر تلك المبادلات، في الواقع، هو المقامرة، لا بمالٍ فحسب، بل بشعوب وبلدان واقتصادات. ولعل مناهضة مثل هذا الشكل من المقامرة بالذات يصبح نقطة لقاء بين من يتبنون منهجيات إسلامية واشتراكية وقومية في الوطن العربي، في طريق تأسيس جبهة عالمية لمناهضة الإمبريالية، التي لا يمكن فهم طبيعتها من دون فهم طبيعة رأس المال المالي الدولي.
خريطة المراكز الرئيسة لتبديل العملات الأجنبية في العالم
تشير إحصاءات موقع Statista، في المقابل، إلى أن تداول العملات الأجنبية وعقودها والمشتقات المالية المرتبطة بها، بلغ 8.3 ترليونات دولار يومياً، بحسب تقرير منشور في 11/1/2022، عن نهاية عام 2019، كما أن ذلك التقرير يقلص تقدير حصة التبادل الفوري، أو المباشر، من العملات الأجنبية، إلى 1.1 ترليون دولار يومياً فحسب (وليس ترليونَين). ولعل تقرير Statista اعتمد على تعريف أشمل للمشتقات المالية المرتبطة بالعملات الأجنبية. وهو ما يزيد في نسبة التبادل الآجل، وبالتالي يزيد في صدقية استنتاجنا أن حركة العملات الأجنبية تزداد انفصالاً عن حركة التجارة والاستثمار الدوليين، وتزداد تعظيماً للقيم المالية على حساب القيم الحقيقية التي يفترض أن تعكسها.
لكنّ ما يهمنا بصورة أكبر هنا هو الخريطة الجغرافية التي يعرضها تقرير Statista ذاته لحركة تلك العملات الأجنبية، دولياً، والتي تجعل بريطانيا، ولندن بالذات، عاصمة تبديل العملات الأجنبية في العالم من دون منازع، إذ يمر عبرها نحو 3.6 ترليونات دولار يومياً من حركة صفقات العملات الأجنبية، تليها الولايات المتحدة الأمیرکية، بما يقارب 1.4 ترليون دولار يومياً، تليها سنغافورة وهونغ كونغ، بما يعادل 640 و630 مليار دولار يومياً، تليهما اليابان (طوكيو)، ثم سويسرا، ثم باريس، ثم الصين ثم ألمانيا. أما سائر بلدان العالم الأخرى، مجتمعة، فيمر عبرها ترليون دولار يومياً فحسب.
وما سبق بشأن المسارات الجغرافية للحركة اليومية للعملات الأجنبية مهمٌّ جداً لمعرفة مراكز الثقل الاقتصادي – السياسي في ذلك البعد المهم، وغير الوحيد، من بنية رأس المال المالي الدولي، وبالتالي من تجليات الهيمنة الإمبريالية. كما أنه يفسر لمَ تصبح عملات دويلات صغيرة، مثل سنغافورة وهونغ كونغ، عملات دولية صعبة، فما هي إلّا حصونٌ أو مراكز شيدت عند عقد التقاء مسارات حركة رأس المال المالي الدولي، ومنه حركة تبديل العملات الأجنبية، الحالية والآجلة. فكون التبادل يجري في الفضاء الإلكتروني، فإن ذلك لا يغير حقيقة وجود من يحركه ويطلقه ويلتقطه ويستفيد منه على الأرض، في مواقع جغرافية محدَّدة، تماماً كما يمكن تحديد موقع حاسوبك أو هاتفك النقال جغرافياً.
لكنْ، على الرغم من أن لندن هي أهم محطة لحركة مرور العملات الدولية، في الأسواق الحالية والآجلة، فإنه لا يجوز أن يرقى الشك إلى هوية من يسيطر على المنظومة المالية الدولية برمتها: البنوك الأمیرکية العابرة للحدود. ويشير تقرير لموقع Euromoney، صدر في 25/6/2020، إلى أن 6 من أكبر 10 مؤسسات مصرفية تمر صفقات العملات الأجنبية عبرها، هي بنوك أمیرکية، أولها JP Morgan. أما البنوك الأربعة الأخرى، فأهمها UBS السويسري، الذي يأتي في المرتبة الثانية بين العشرة الأوائل، ثم شركة المتاجرة الإلكترونية XTX في المرتبة الثالثة، ثم “دويتش بانك” الألماني في المرتبة الرابعة، ثم HSBC البريطاني في المرتبة السادسة، بعد Citi الأمیرکي في المرتبة الخامسة. ففي هذا الميدان، يبقى الأمیرکيون وحدهم المسيطرين.
الدولار الأمیرکي كمخزن عالمي للقيم المالية
من البديهي أن الحجم المهول لتبادل العملات الأجنبية يومياً، وانتفاخ القيم المالية لمثل ذلك التبادل، في ديناميكيات ومسارات ما برحت تزداد انفصالاً عن حركة رأس المال المنتِج، وبالتالي عن مراكز ثقل الاقتصاد الحقيقي الصاعدة في العالم، وعلى رأسها دول البريكس، وأهمها اقتصادياً الصين بالطبع، لا يمكن أخذهما بمعزل عن الجوانب الأخرى لحركة رأس المال المالي الدولي، ومنه مثلاً لا حصراً المتاجرة بأذونات الخزينة والسندات الحكومية الأمیرکية وغير الأمیرکية.
سبعة ترليونات من الدولارات تقريباً هي قيمة أذونات الخزينة والسندات الحكومية الآمیرکية التي يملكها غير أمیرکيين، وشراء مثل تلك الأدوات المالية لا يمول الدين العام الأمیرکي فحسب، ويزيد بالتالي في قدرة الولايات المتحدة على أن تنفق أكثر من إمكاناتها، بل يقوي الدولار الأمیرکي، بما أن تلك الأذونات والسندات تشترى بالدولار الأمیرکي، وبالتالي تزيد في الطلب عليه. فإذا أضفنا إليها أذونات خزينة وسندات الدول الغربية، أو التي تدور في فلك الغرب، مثل اليابان، وهي النسبة الساحقة من الديون العالمية (كما أوضحنا في مادة “الدين العام الأمیرکي: عكازٌ مفخخٌ يتوكأ عليه الاقتصاد العالمي”، في الميادين نت، في 26/4/2022)، فإن عملات تلك الدول تزداد قوةً بمقدار ما يُقبِل المستثمرون الماليون على شراء سنداتها وأذونات خزينتها بالين واليورو… إلخ.
في المقابل، لنلاحظ أن الدول النامية، عندما تريد الاستدانة في الأسواق الخارجية، تصدر سنداتها وأذونات خزينتها بالدولار، وأحياناً باليورو، وكذلك قد تصدِر الدول والشركات الغربية سندات بعملات دول غربية أخرى أحياناً تستقطب المستثمرين الماليين من كل أنحاء العالم، وكل هذا يعزز الطلب العالمي على العملات الرئيسة، وعلى رأسها الدولار واليورو. ويشير تقرير للمصرف المركزي الأوروبي، صدر في تموز/يونيو 2021، بعنوان “الدور الدولي لليورو”، إلى أن نحو 63% من السندات وأذونات الخزينة عالمياً مقومة بالدولار الأمیرکي، و23% منها باليورو، وإلى أن نحو 55% من قروض البنوك بالعملات غير المحلية خارج الولايات المتحدة مقومة بالدولار، ونحو 17% من قروض البنوك بالعملات غير المحلية خارج الاتحاد الأوروبي مقومة باليورو.
ويشير تقرير المصرف المركزي الأوروبي أيضاً إلى أن 44% من القيمة الصافية لحركة العملات الأجنبية يومياً تجري بالدولار، وأقل من 17% منها باليورو، وأكثر من 8% منها بالين الياباني (موقع FOREX يقول إن 88% من حركة العملة الأجنبية عالمياً تجري بالدولار، لكنها طريقة أخرى لحساب الشيء ذاته، إذ إنه يقول أيضاً إن نحو 33% منها يجري باليورو، ونحو 17% منها بالين، ونحو 13% بالجنيه الإسترليني… إلخ، إذ إن كل عملية تبديل عملة تتضمن طرفين، من – إلى، وبالتالي فإن الدولار يمكن أن يظهر كمنطلق أو كهدف، والقيمة ذاتها التي يتحول الدولار منها أو إليها تظهر أيضاً على شكل عملات أخرى غير الدولار. وعليه، فإن تلك النِّسَب هي من 200% بحسب تقرير بنك التسويات الدولية).
ما سبق مهمٌّ جداً لفهم بعض مصادر الطلب العالمي على العملات الرئيسة، وعلى رأسها الدولار الأمیرکي طبعاً، ثم اليورو (لمزيد بشأن هذه النقطة، الرجاء مراجعة “السباق الاقتصادي الآمیرکي – الصيني ووطأة الدولار الأمیرکي”، الميادين نت، 28/2/2022). وتلك العملات الرئيسة، على الرغم من تضعضع مواقعها في الأعوام الفائتة، بحكم صعود الصين وقوى دولية وإقليمية أخرى، لأن الاقتصاد الحقيقي يبقى الأساس، في المحصلة، فإنها تبقى المهيمنة دولياً، وستبقى مهيمنة حتى يتبلور نظامٌ اقتصاديّ عالميّ جديدٌ لا يعتمد على تداول الدولار واليورو والين وما شابهها في تسيير شؤونه.
الدولار يرتفع على بساط الأزمة العالمية
اللافت طبعاً هو أن الدولار الأمیرکي لم يرتفع إزاء اليورو فحسب، بل ارتفع بمقدار 8%، بحسب تقرير لـ”رويترز” في 29/4/2022، في مقابل سلة من العملات الرئيسة الأخرى منذ بداية العام الجاري. لكنّ معدل ذلك الارتفاع تصاعد خلال شهر نيسان/أبريل الفائت، وبلغ أشده إزاء الين الياباني، ثم الكرون النرويجي، ثم الدولار النيوزيلندي، ثم الدولار الأسترالي، ثم الجنيه الإسترليني، ثم اليورو، ثم الفرنك السويسري، ثم الكرونا السويدي، ثم الدولار الكندي.
ما من شكّ إذاً في أن الدولار يصعد. أمّا اليورو، فلم يهبط إزاء الدولار الأمیرکي فحسب، بل إزاء الجنيه الإسترليني، منذ منتصف شهر نيسان/أبريل الفائت، وهو هبوط يعزز هبوطه العام إزاء الجنيه خلال العام الفائت، على الرغم من التذبذب اليومي. ونرى الاتجاه ذاته في هبوط اليورو خلال العام الفائت إزاء الفرنك السويسري، وهو الاتجاه الذي تَعَزَّز، على الرغم من الصعود والهبوط، منذ بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا. الين الياباني هنا هو الاستثناء، إذ إنه يشهد هبوطاً أكبر من هبوط اليورو إزاء الدولار الأمیرکي.
لكنّ الاتجاه العام لهبوط اليورو ينسحب على عملات الاقتصادات الصاعدة والنامية عموماً، لا على الروبل الروسي واليوان الصيني والروبية الهندية والريال البرازيلي (هبط اليورو نحو 20% في مقابل الريال البرازيلي منذ بداية عام 2022) والراند الجنوب أفريقي والروبيا الإندونيسية فحسب، بل أيضاً إزاء البيزو المكسيكي والكولومبي والتشيلي والفيلبيني وغيرها من العملات. والطريف أن اليورو لم يرتفع إلّا إزاء عملات تسابق اليورو في الهبوط في مقابل الدولار، مثل الزلوطي البولندي والفورينت الهنغاري والليرة التركية والجنيه المصري.
حتى الحرب الاقتصادية ضد روسيا، تخوضها الولايات المتحدة باقتصادات حلفائها، وهو أمر يُفترض بأولئك الحلفاء أن يتأملوه جيداً، ولاسيما في حين أن الدولار يزداد قوةً، على صعيد عالمي، على الرغم من ضخ النقد الأمیرکي بكميات مهولة، ما عدا، ولننتبه جيداً، في مقابل الريال البرازيلي والروبل الروسي! لقد ارتفع الريال البرازيلي نحو 11%، وارتفع الروبل الروسي نحو 4%، منذ بداية عام 2022، في مقابل الدولار الأمیرکي… وجاء ارتفاع كليهما لأنهما منتجان رئيسان للسلع الأساسية في العالم، من جهة، أي يعتمدان على الاقتصاد الحقيقي، ولأنهما اتبعا سياسة رفع أسعار الفائدة لمحاربة الضغوط التضخمية، من دون خوف على الأساس الاقتصادي.
من البديهي أن الاقتصاد البرازيلي ليس محاصراً كالروسي، ومن هنا جاء أداء مؤشراته أعلى من الروسي، لكن البرازيل تبقى قوة عالمية صاعدة ومكوناً مهماً من منظومة البريكس. وبصورة عامة، هناك تحسن في مقابل الدولار في أمیرکا اللاتينية منذ الأزمة الأوكرانية، ولاسيما في كولومبيا التي تصدّر النفط الخام ومشتقاته والفحم والبن والذهب، لكن ذلك جاء على خلفية دورة من الانكماش الاقتصادي الشديد منذ عام 2014.
الولايات المتحدة تحلّ مشكلتها على حساب حلفائها
سبقت الإشارة إلى أن السلع الرئيسة في العالم مسعّرة بالدولار. وبالتالي، فإن ارتفاع قيمته في مقابل العملات الأخرى سيخلق ضغوطاً تضخمية في معظم البلدان حول العالم التي ستجد تلك السلع أغلى ثمناً بعملاتها المحلية. حتى في اليابان المعتمدة على التصدير، حيث يُفترض أن يؤدي انخفاض سعر الصادرات إلى زيادة عائداتها منه، ثمة قلق كبير من ارتفاع تكلفة حوامل الطاقة والغذاء على تكاليف الإنتاج. والمعضلة أن اليابان والاتحاد الأوروبي لا يرغبان في رفع معدلات الفائدة لاحتواء غول التضخم النهم خوفاً من خنق فرص التعافي الاقتصادي بعد أزمة كورونا.
في المقابل، تُعَد الولايات المتحدة الأمیرکية اقتصاداً مستورِداً، لا بل تمثل السوق الأمیرکية أكبر سوق للواردات في العالم، لأن الولايات المتحدة تستطيع أن تستهلك أكثر مما تنتج بفضل الطلب العالمي على الدولار الأمیرکي. لذلك، فإن ارتفاع قيمة الدولار يخفض أسعار السلع المستوردة في الولايات المتحدة، ويحتوي التضخم، أو يقلّله على الأقل، بمقدار ما يعتمد الأمیرکيون على السلع المستورَدة في استهلاكهم.
يشير تقرير “رويترز”، المنشور في 29/4/2022، والمذكور أعلاه، استناداً إلى خبراء اقتصاديين، إلى أن الدولار الأمیرکي، على الرغم من صعوده الأخير في مقابل سلة من العملات الأجنبية، لا يزال أدنى 2% مما كان عليه قبل دخول أزمة كوفيد على الخط. فإذا عاد إلى المستوى الذي كان عليه في آذار/مارس 2020، أو تجاوز ذلك المستوى، فإن ذلك قد يقلّل اضطرار الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع معدلات الفائدة لكبح معدل التضخم. وهو ما يتيح للولايات المتحدة أن تنعم بمعدلات فائدة لا تُعَوِّق النمو الاقتصادي، وبمعدلات منخفضة للتضخم، في آنٍ واحد، بفضل هيمنة الدولار على المنظومة المالية الدولية، ما عدا في الدول ذات الاقتصادات: 1) المستقلة؛ 2) المنتِجة، في آنٍ واحد. ومن البديهي أن حيز هيمنة الدولار يتقلص بمقدار ما يتسع حيز الدول المنتِجة والمستقلة.
كان لافتاً، في الواقع، أن سعر أونصة الذهب الذي ارتفع من نحو 1887 دولاراً في 24/2/2022، عشية العملية الروسية في أوكرانيا، إلى أكثر من 2052 دولاراً للأونصة بعدها بأسبوعين فقط، عاد إلى الانخفاض صبيحة 2/5/2022 إلى نحو 1883 دولاراً، أي إلى مستوى أقل مما كان عليه قبل دخول روسيا أوكرانيا.
السبب هو أن الدولار يُعَدّ عالمياً عملة ملاذ آمن، مثل الذهب. فهو والذهب، بهذا المعنى، سلعتان بديلتان، إذا استهلكتَ مزيداً من واحدة، فإنك تستهلك أقل من الأخرى، تماماً كنوعين من معجون الأسنان أو القهوة والشاي مثلاً. وعلى الرغم من آن الأزمة تترع إناء الاقتصاد العالمي، وعلى الرغم من ارتفاع معدل التضخم الأمیرکي، الذي يفترض، بحسب كل قوانين علم المالية الدولية، أن يخفض سعر العملة، وعلى الرغم من أكثر من 6 ترليونات من الدولارات التي ضخها الاحتياطي الفيدرالي في شرايين الاقتصاد الأمیرکي بين شباط/فبراير 2020 وشباط/فبراير 2022، فإن الدولار راح يزداد قوةً، كأنه يخالف قوانين الطبيعة فعلياً، ولكن ليس حقاً، إذا أخذنا في الاعتبار مفهوم الهيمنة المالية؛ أي مفهوم الإمبريالية كما يتجلى في زماننا. وزعزعة تلك الهيمنة باتت مصلحة عامة للبشرية ككل، ولاسيما الأمم المضطَهدة بينها، مثل الأمة العربية.