ثقافة وفن

تميم قاسمو سيرة معشقة بالأشعة المعتقة

حلب – غالية خوجة

هل كان المهندس الباحث تميم قاسمو (1946-2022) يرثي نفسه عندما رثى الشاعر مظفر النواب قائلاً: “وداعاً مظفر النواب، فقد آن للطير أن يستريح”؟

لقد نشأ تميم قاسمو في أحد أحياء مدينة حلب القديمة، وكان بيت عائلته مقابل القلعة، وهذا كان كافياً ليجذبه إلى حضارة حلب الشهباء، والتشبث بجذورها ومحاولة البحث فيها، والانجذاب للقراءة المعرفية منذ قرأ أول عدد صادفه من مجلة العاديات وكان عمره 12 سنة.

الحداثة تبدأ من بوابات التراث

ودعنا قاسمو عابراً من بوابات التراث التي فتح لنا أبوابها من خلال أعماله الباقية بين كتابة الأبحاث والدراسات والمقالات في مجال التراث، خصوصاً، تراث مدينته حلب المادي واللامادي، المدينة التي تخرج من جامعتها عام 1969 مهندساً مدنياً، وجعلته يسبح في بحورها التأريخية إلى أن رددت معه مقولته:”المعرفة التراثية أمر أساسي للدخول إلى الحداثة لأن من لا قديم له لن يكون له جديد”، ويتابع قاسمو مفهومه لهذه المعادلة:”إن أية قطيعة مع الماضي أو أية نظرة مجتزأة له لا تخدمنا في التأسيس للحداثة والتقدم”.

لكن، كيف تكون نظرتنا للماضي كي نتقدم؟

يجيب:”يجب ألاّ تكون نظرة حنينية، بل علمية وموضوعية كي نتعرف خلالها على العاطل فيه قبل الصالح لكي نستطيع تفاديها حاضراً ومستقبلاً”.

ولا بد من أن أذكر بأنني اتصلت بالباحث تميم قاسمو عدة مرات من أجل حوار معه للبعث، لكنه كان يعتذر بسبب وضعه الصحي الصعب جداً، رحمه الله.

بصمات ملونة بالحركة

تتسم شخصية تميم قاسمو الذي غادرنا بعدما ترك سيرة ملونة بالشعاع مثل الزجاج المعشق، بالمرونة والجدية والبحث الدائم المتوازي مع العمل الدائم رغم جميع الظروف المكانية والصحية، لذلك، لن نستغرب عندما نعلم أنه وجه أصيل من وجوه الثقافة في حلب، وملامحه تنعكس من مرايا بصماته في مختلف المجالات، ومنها اهتمامه بالتراث الشفهي لحلب من قصص وحكايات وأمثال شعبية، إضافة لما يقوم به من توثيق دقيق، وكان مدير تحرير مجلة العاديات الفصلية، وعضو لجنة إنجاز الجامع الأموي الكبير بحلب، إضافة إلى عمله التطوعي في جمعية العاديات: أمين السر في مجلس الإدارة، ورئيس مجلس الإدارة في النصف الثاني من عام 2019، رئيس اللجنة الثقافية، رئيس لجنة التراث الثقافي غير المادي، رئيس لجنة المدينة القديمة في الجمعية.

عصاميّ أعطى ولم ينتظر شيئاً

وعن حضوره كإنسان وباحث، أجابنا الدكتور المهندس صخر علبي الأستاذ الجامعي ومدير الآثار والمتاحف بحلب: إنسان عصامي، قدم كل ما عنده ولم ينتظر شيئاً، رحل بهدوء كما عاش، عروبي حتى النخاع، وطني إلى أبعد حد، خدم الهندسة والتراث وحلب القديمة بكل طاقته وربما أكثر من طاقته، إنسان بكل معنى الكلمة قبل كل شيء، أفنى عمره بالبحث والعمل الأهلي والمجتمعي، أعطى وأعطى وأعطى إلى أن نال منه المرض الذي صارعه طويلاً بصمت. لروحه الرحمة والمغفرة ولذويه ومحبيه خالص العزاء.

العين المبصرة واليد البانية

أمّا عن أهم آثاره، فقال الباحث محمد قجة: صديق العمر تميم قاسمو، لم أكن أتصور يا أبا أحمد أنني سأكتب كلماتي في رثائك، تميم قاسمو شخصية استثنائية بكافة المعايير الانسانية والعلمية والثقافية والاجتماعية والمعرفية والتراثية والوطنية، له بصمات واضحة في العمل الهندسي داخل سورية وخارجها، ولقد أمضينا معاً 20 عاماً من العمل الطوعي العام في جمعية العاديات، وكنتَ خلالها العين المبصرة واليد البانية والقلب النبيل المعطاء، وكان في احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية 2006 ركناً هاماً في سائر الأنشطة، ومحوراً أساسياً في إصدار “الكتاب الذهبي لتوثيق الاحتفالية”، والعقل المخطط للندوات العلمية في الاحتفالية، كما عمل في مدينة حلب القديمة ممثلاً لجمعية العاديات، ثم رئيساً للجنة الفنية للمدينة القديمة، وكان له الدور الأساسي في إصدار الكتاب التوثيقي للجامع.

وأضاف قجة: وقبل ذلك كله، تميم قاسمو الإنسان الخلوق الدمث المثقف النبيل الوطني العروبي الأصيل المحب لوطنه وتراث أمته وحضارتها العريقة، لن ننساك، وتبقى ذكراك الطيبة حية في القلوب والنفوس في كل مكان وزمان.

يوثق الحضارة أثناء القصف الإرهابي

بينما ركزت الدكتورة منى تاجو مسؤول التراث اللا مادي في جمعية العاديات بحلب على ما تمتع به قاسمو من ذكاء حاد وحب للبحث والعطاء، مضيفة: وامتاز بفكر متنور ومتطور، وبإدراك مسؤول وعملي لأهمية التوثيق حتى أثناء قصف الصواريخ الإرهابية، وكان يعمل أثناء الحرب أكثر، ولقد عملت معه في التوثيق برفقة د.مازن جاموس ورقياً، ثم تمّ التوثيق الالكتروني على الحاسوب في مكتبة العاديات، وكان عملاً مهماً، إضافة إلى أنه وثق مع مجموعة من الزملاء والطلاب 22 ألف صورة عن الثقافة في حلب، كما وثق الدوريات التي كانت تصدر في حلب، وتلك التي تاتي إلى حلب.

حفظ حلب بين ترميم وإحياء

وأكدت الباحثة سها شعبان المقيمة في الإمارات على وعيه المتقد بالعمل: إنه المهندس الذي حمل هم حلب وتراثها الثقافي المادي وغير المادي حتى آخر أيامه، وهو الذي حفظ حلب وتخطيطها وعمرانها، وكان آخر لقاء لي به في عشرين آذار الماضي في إكسبو 2020، حيث حضر مع الوفد السوري لحضور ورشة عمل “ترميم وإحياء التراث السوري” التي أقامتها الأمانة السورية للتنمية، انتهى المؤتمر وانفض الناس وبقينا أنا وهو قرابة الساعة نتحادث عن هم التراث السوري، وبدا متعباً ومرهقاً، لكنه كان ذا عزيمة وهمة وأهداف سامية.