مصادفات مأتمية في “موت معلن”
بطريقة الخطف من الخلف يبدأ الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز روايته “موت معلن” ومن ثم يعود بسرد الأحداث إلى ما قبل 27 عاماً، وتحديداً ما بين الساعة الثالثة بعد منتصف ليلة الاثنين المشؤومة والسابعة صباحاً يوم مقتل “سنتياغو نصار” ، حيث تستحضر والدته السيدة “بلاثيدا لوثيرو” تفاصيل ذلك اليوم بحلم ابنها بالليالي السابقة لقتله.
يستغرب “قاص” الأحداث، المجهول الهوية، السمعة الطيبة التي أحرزتها والدة “سنتياغو” بتفسيرها الصائب لمنامات الآخرين إذا ما رُويت لها قبل أن تتناول أي طعام إلا أنها لم تنتبه إلى أي فأل مشؤوم في الحلمين اللذين حلم بهما ابنها في الأسبوع السابق لموته.
حتى أنها تستذكر يوم قتله أنه أيقظها أثناء مروره الخاطف في غرفة النوم بينما كان يحاول العثور باللمس عن قرص أسبرين في علبة الأدوية الموجودة في الحمام فأضاءت النور ورأته وهو يظهر في الباب حاملاً بيده كأس الماء، حينها روى لها “سنتياغو” الحلم ولكنها لم تولِ أي اهتمام لرؤيا الأشجار قائلة له جميع الأحلام التي بها أشجار هي أحلام خير.
مصادفات مأتمية كثيرة لا أحد يمكنه أن يفهمها إلا أن قاضي التحقيق الذي أتى من “ريوهاتشا” الوحيد الذي أحس بها دون أن يجرؤ على قبولها، لأن اهتمامه بإعطاء تفسير عقلاني كان واضحاً في المحضر، حيث ورد ذكر “بوابة القدر” والحقيقة أن التفسير الوحيد هو ما قالته والدة نصار” التي أجابت بعقل الأم” لم يكن من عادة ابني الخروج أبداً من البوابة الخلفية وهو يرتدي ملابس جيدة”.
سلطة الرجل وذكوريته تمثّلت جليّة بجريمة الشرف التي ارتكبها الأخوان “فيكاريو”، التي نالت تأييد المحامي وكذلك موافقة هيئة المحلفين حتى إخوتها التوءم “فيكاريو” أعلنا في نهاية المحاكمة استعدادهما لفعل ذلك ألف مرة إذا ما توفرت الدوافع نفسها، حتى إنهما أظهرا شراسة أشد بكثير مما فعلاه في الواقع أثناء تمثيل الجريمة أمام الراهب الذي اقتحما بيته بعد أن قتلا “سانتياغو” واعترافهما له بأنه قتلاه بكامل وعيهما بعد أن أعيدت أختهما “انخيلا فيكاريو” في ليلة زفافها إلى منزل والديها إثر اكتشاف زوجها بأنها غير عذراء ملقية بالذنب على “سنتياغو” إثر الضغط والقتل الذي تعرضت له على يد إخوتها وظناً منها بأن إخوتها لن يلحقوا الأذى بـ”سنتياغو” لأنهما يتمتعان بطبيعة مسالمة ولأن سنتياغو من طبقة ثرية.
الغريب فعلاً بأنه لم يحدث موت معلن كهذا فبعد أن أخبرتهما “انخيلا” بالاسم ذهب الأخوان “فيكاريو” إلى مستودع حظيرة الخنازير واختارا أفضل السكاكين وشحذاها في سوق اللحم وقال “بابلو” على الملأ بأنهما سيقتلان “نصار”، إلا أن جميع الجزارين لم يصدقوا ما قاله لسمعتهما الطيبة وظنوا بأنها “تقولات سكارى”، ربما لم يكن الأخوان متشوقين لقتل “سنتياغو” بقدر تشوقهما للعثور على من يمنعهما من فعل ذلك، حتى خطيبته لم تحذره بسبب غضبها منه إثر علاقته بـ”أنخيلا” وتمنت صراحة أن يقتلوه، وحتى القسيس اعترف لـ “الراوي” المجهول: “لم أعرف ما الذي ينبغي عليّ فعله.. لم يكن الأمر متعلقاً بي فهو عمل السلطات المدنية”، يقرر فيما بعد أن يوصل التحذير لأمه ولكن وصول موكب المطران ينسيه التحذير.
حتى المحقق الذي استلم القضية كان مكتوياً بحمى الأدب، محتاراً جدياً باللغز الذي كان من نصيبه، لم يكن يستوعب بصورة خاصة كيف يمكن للحياة أن تستفيد من مصادفات كثيرة محظورة على الأدب لتتم دون أي عرقلة عملية موت معلنة إلى ذلك الحد، حتى إنه اكتشف أن تصرف “سنتياغو” في الساعات الأخيرة من حياته هو دليل قاطع على براءته.
حتى والدته ساهمت في قتله على طريقتها، فبعد أن وصلها خبر التحذير أغلقت باب المنزل بالمزلاج خلال مطاردة الأخوين فيكاريو لسانتياغو الذي لم تره يجري نحو البيت، والأخوان في إِثره، يتلقى سانتياغو عدة طعنات خلال محاولته دخول البيت ويتم تمزيقه مثل الخنزير، فيحمل أحشاءه ويدخل من الباب الخلفي مرمياً في أرض المطبخ.
تملّك “أنخيلا” حب مفاجئ وجامع لزوجها “بياردو سان رومان” وبقيت تراسله دون مهادنة مدة سبعة عشر عاماً كل أسبوع تكتب رسالة، منها دعوات للوفاق إلى أوراق عاشقة متخفية ثم بطاقات معطرة من خطيبة عابرة ثم مذكرات عمل فوثائق غرام لتختمها برسائل ساخطة من زوجة مهجورة تخترع أمراضاً قاسية لتجبره على العودة، ورغم هذا لم تستلم وما كان يتأثر بهذيانها، حتى أنه عاد بعد مضي سبعة عشر عاماً حاملاً معه جميع الرسائل التي بانت بأنها لم تفتح ولم تقرأ أبداً.
يتركنا الكاتب الحائز على شهادة نوبل كقرّاء في حيرة ما بين براءة “نصار” فلو كان مذنباً فعلاً ما كان رده على والد خطيبته الذي حذره من الذهاب وطلب منه البقاء عندهم أو التسلح ببندقية قائلاً: “لست أفهم شيئاً مما تقوله”، وما بين اقترافه الجريمة فلو كان بريئاً لدافع عن نفسه وتكلم أثناء مهاجمة التوءم له فقد بدا كأنه راض لمواجهة مصيره وهم يطعنوه بسكاكينهم الجارحة دون أن ينطق ببنت شفة.
رواية قصة “موت معلن” صدرت عام 1981 وهي توثيق لقصة حقيقية حصلت في عام 1951 في الريف الكولومبي.
الرواية شيقة وتستحق القراءة لواقعية أحداثها أولاً ولما تحويه من عبر كتخاذل المجتمع المحيط بـ”سنتياغو” في عدم تحذيره وإخباره بنية الأخوين قتله، ومن جهة أخرى خروج الكاتب عن المألوف في ختام الروايات التي تنتهي بنجاة البطل، ولكن هنا النهاية كتبتها سكاكين الذبح، وآخر العبر ما سطرها الصديق الحقيقي لـ “سنتياغو” “كريستو بيدوريا” الذي بحث بكل قوة طيلة صباح اليوم المشؤوم عن صديقه لتحذيره ولم يتمكن من العثور عليه.
البعث ميديا|| ليندا تلي