ثقافة وفن

“بورخيس” القصيدة كحياة، الحياة كقصيدة

“أن نطيل النظر إلى نهرٍ مصنوعٍ من الوقت والماء/ونتذكر أن الزمن نهر آخر/أن نعلم أننا نسير على غير هدى مثل النهر/وأنّ وجوهنا تتلاشى كالماء/أن نشعر بأن اليقظة هي حلم آخر/نحلم فيه بأننا لا نحلم، وأن الموت الذي نخشاه في عظامنا هو الموت/الذي نسميه كل ليلةٍ حلماً/أن نرى في كل يومٍ وكل عامٍ رمزاً لكل أيام الإنسان وسنينه/ونحوّل غضب السنين/إلى موسيقى وصوتٍ ورمز/أن نرى في الموت حلماً، وفي الغروب حزناً ذهبياً – هكذا هو الشعر/متواضع وخالد/ شعرٌ يعود كما الفجر والغروب”
هذا التعريف الفلسفي الحسي للشعر، هو للشاعر الأرجنتيني “خورخي لويس بورخيس”-1899-1986-ورد كقصيدة مؤلفة من سبعة مقاطع، حملت عنوان “فن الشعر”-العنوان الذي يحيل إلى مؤلف “فن الشعر” لارسطو-جعل بورخيس فيها الشعر، موضوعا لقصيدته، فالشاعر الذي طافت شهرته الشعرية الآفاق، بات لديه من المخزون الفكري والمعرفي والإنساني، ما يخوله أن يقول رأيا حاسما وقاطعا بالنسبة إليه ولتجربته، وبات يمتلك من الحكمة الإنسانية والأدبية، ما يجعله يقدم مفهومه للشعر، لا بالتنظير النقدي له، بل بما يتقنه ويبرع فيه، قصيدة، يقول فيها ما هو الشعر وماهي خصائصه ووظائفه أيضا، وله فيما ذهب إليه فلسفته الخاصة، إذ قال: “الشعر لا يقلُّ غموضاً عن عناصر الكون الأخرى، ومادام الأمر كذلك، فإن أحداً لن يستطيع أن يُعرّف لنا الشعر، أكثر من الشعراء أنفسهم” لذا يجد صاحب “المرايا والمتاهات” أن عليه أن يقوم بذلك، لينقل معرفته أيضا التي جاءت بعد حياة ضاجة بالتجارب الشخصية، في علاقته مع الحياة نفسها، بتفاصيلها وتشعباتها التي لا تنتهي، وفي علاقته أيضا مع الأدب، ومع الشعر تحديدا، الجنس الأدبي الذي عاش معه جل عمره، والصديق الذي اختبر نبله عندما فقد بصره، فكان أن خلق له مساحات جديدة، يصعب على المبصرين ارتيادها دونه، ومنها عاد بأسلوب خاص فيه، يشتغل فيه على القصيدة كما لو أنها فيلما سينمائيا، تمر مشاهده تباعا، ثمة صورة مرئية وملموسة في قصائد صاحب “الرمل”، تنفر عناصرها لتعبر عن نفسها بوضوح وسحر، يقول في قصيدة العودة: “في نهاية سنوات المنفى/أعود إلى دار طفولتي/وأشعر بأني ما زلتُ في بلد غريب/لمست يداي الشجر كملامسة شخص نائم/وكررتُ دروباً قديمة/كما لو أني أستعيد من النسيان بيتاً من الشعر” ثم يتابع في سرده للتفاصيل الحسية التي لفتته بعد العودة إلى الوطن، قمر و نخل، ظلال وشارع، طير وغروب: ” كم من غروبٍ بطولي/سيناضل في عمق الشارع/كم من قمر جديد هش/سيلقي بحنانه في الحديقة/قبل أن تعرفني الدار من جديد وتصبح مألوفة” ليختتم مهرجان رؤاه الملونة بالكآبة بالقول: ” نيران الفرح المباغتة/تزفر في حمرتها، خشب أضحية/ينزف حتى الموت في لهبه العالي/الظل ساكن كنظرة نحو البعيد؛/اليوم يتذكر الشارع ماضيه الريفي./طوال الليلة المقدسة تسبح الوحدة نجومها المتناثرة” أي وحدة تلك التي لفته بينما نظره يقع على مطارح ألفته؟ وكيف للتعبير عن الوحدة أن يكون أكثر جمالا من كونها “تسبح نجومها المتناثرة”؟
الشاعر الأرجنتيني الذي حلت ذكرى رحيله البارحة-14/6/1986-اشتغل على ثلاثة ضروب من ضروب الإبداع: الشعر، وله فيه تسعة دواوين شعرية منها: ” دفء بيونس آيريس، القمر في المُقابل، مديح الظل، والوردة الغائرة..” وفي القصة، وله فيها ثماني مجموعات قصصية منها: “تاريخ العار العالمي، حديقة الطرق المُتشعبة، وكتاب الرمل”، وأما اشتغاله الثالث: في المقالات والدراسات، وله فيها ست دراسات منها: “استقصاءات، لغة الأرجنتين، وتاريخ الأبدية” والتعريف به كشاعر أرجنتيني وليس “العالمي” رغم أنه يعتبر من أشهر أدباء القرن العشرين في العالم، هو نزولا عند رغبته، فالعالمية التي وصل إليها صاحب “ترنيمة البحر” –أول قصيدة كتبها-لم تنسه أن يفتخر بكونه عمل كمفتش دواجن في سوق بلدية بيونس آيرس، أي أنه بقي في قرارته التي انعكست في شعره ونتاجه الأدبي عموما، حتى النقدي منه، الفتى اللاتيني، القادم من أرض خصبة بالأساطير، منتعشة بالخرافة والثقافة الغيبية، يتداخل فيها الخيالي بالواقعي، للدرجة التي يصعب التفريق بينهما، وهذا هو ملمح الأصالة الأهم في تجربته الشعرية الباذخة، عدا عن كون العالمية، هي من سعت إليه، وهي من طرقت بابه.
السيرة الشخصية لهذا الأديب، الذي ترك دربا شعريا خلفه، كما لو أنها إرثه، للجميع، مليئة بالمواقف والأفعال التي تنسجم وروحه الشعرية الحرة، كما أنها تتضمن على ماض قلق ومضطرب، صعب وغير مستقر، لكنه استطاع أن يحول تلك الآلام، إلى ذكريات شعرية بارعة، ملهمة، ربما تصالح معها، وربما خاض في عدميتها أكثر فأكثر، ردا على العبث الذي صار قوت الجميع.
تمّام بركات