إنها الحرب الوطنية العظمى
د. عبد اللطيف عمران
نحن في هذه الأيام بحاجة ماسّة إلى تضافر جهود المعنيين والمختصين لصياغة سرديّة لتاريخنا المعاصر، لواقعنا الراهن، صياغة وطنية حقيقية، وعروبية أصيلة، لا شك سيكون إنجازها صعباً بعد ألوان وأساليب من السرديّات الزائفة والروايات المضللة التي استبدّت خلالها ميديا البترودولار، أو كادت تستبد، بعقول الناس خاصتهم وعامتهم، فتمكّن هذا الزيف وهذا التضليل بملاءته المالية وتقنيته التكنولوجية من خلق (الجمهور القطيع) ما يجعل من هذه السرديّة ضرورة وواجباً لأسباب عديدة أهمها حصانة جيل الغد ووعيه وهويته ومصيره.
فالأيام الصعبة تمضي وكذلك السنون القاسية وتبقى القيم الوطنية والأخلاق العروبية بأفقها الحضاري الواسع والساطع عرضة لأخبث أشكال الحروب عبر التاريخ بأساليبها وأهدافها، وإذا كانت هذه القيم والتقاليد تئن اليوم بين المطرقة والسندان تحت وطأة ضربات أعداء أكثر استحضاراً لقول: وسوى الروم خلف ظهرك روم، فإن الروح الوطنية والعروبية وإن مُنيت بغير قليل من الهفوات والكبوات فإنها – ولطالما – بقيت وستبقى قوةً كامنة حيّة تنتفض لتثبت حضورها ومشروعيتها وجماهيريتها على امتداد الزمان والمكان.
شعبنا اليوم – وخاصة في سورية – يدرك ذلك ويُراهن عليه وهو يقف صامداً شامخاً وإن تضافرت على هذا الصمود والشموخ ألوان من العدوان والنكران لم تكن لتخطر في بال حتى المتنبّئين، ومع ذلك فإن هذا الشعب يعيش مع المعاناة، الأمل والثقة والصبر المقرون بالكبرياء، فلم تغب عن روحه إرادة الحياة، وأساليب المواجهة وتحدي الصعاب وتجاوز آثار الحرب على وطنيته وعروبيته وأصالته، على هويته ووعيه وانتمائه.
في هذه السرديّة التي لا يجوز التأخّر في إنجازها نظراً لتوافر مستلزمات الإنجاز وأهمها المداد الذي استحضرته دماء الشهداء البررة، والصفحات التي سطّر سير البطولة والتضحية والكبرياء فيها شهداء أحياء لايزالون يحتفظون بصدق وبطولة بوقائع هذه السرديّة التي فيها ستجد أجيال الغد ما يمكن أن يكون عاصماً لها من الزيف والتضليل والوقيعة مرة أخرى، وستكون الأوطان والمؤسسات والقيم والتقاليد أكثر حصانةً ومنَعة أمام العدوان، إنها السرديّة الحصن المنشود، والتي نشهد اليوم إسهامات غير قليلة فيها، لكنها غير متساوقة في الوقت نفسه،… فالتاريخ واقع، لكن التاريخ علم وفلسفة وأدب. ولطالما اجتهد مشروعنا الوطني والقومي لتعزيزه.
فمهما ذهبت التحليلات، ومهما بدت طبيعة التغيرات، فإن ما هو واضح منها أن الضغوط ومعاودة الضغوط على سورية تبدو خارج أيّة متغيرات أو تبدّلات. ورغم أن قوى العدوان وصلت إلى نقطة باتت خلالها تشكّك في جدوى سياساتها وضغوطها تجاه سورية لإحداث الانقلاب المنتظر في الموقف أو في السلوك، أو ثني سورية عن تمسكها بمبادئها وأهدافها، فإن التساؤل يبقى مريراً حين نبحث عن جوابه مع ضلوع بعض الأنظمة العربية وتورطها في حرب تدمير سورية وهي تتحالف ضدها مع قوى الاحتلال التركية والأمريكية والإسرائيلية في سابقة تاريخية وقومية لم نشهد لها مثيلاً في انحطاطها.
فلماذا هذا التكالب على شعب حرّ ودولة رصيدهما الأساسي التمسّك بالكرامة الوطنية والعروبية، ودعم الحق العربي وقضيته التي لا يمكن إلا أن تبقى مركزية ضد أشكال الاستعمار والاحتلال القديم والجديد؟!.
والجواب هو أننا حقيقة في ما يُعرف (بالحرب الوطنية العظمى) وهي مصطلح معروف وإن كان تاريخياً يخص أوروبا، فإنه يتجدد في سورية اليوم بشكل لا يختلف كثيراً، فالحرب الوطنية العظمى هي التي واجه فيها الاتحاد السوفييتي ألمانيا النازية من 22/6/1941 حتى 9/5/1945 عيد النصر الذي يحتفل به الشعب الروسي على النازية، وهناك من ينكر هذه التسمية من الغربيين ويفضل عليها: الحرب العالمية الثانية، فبرلمان أوكرانيا مثلاً قام بهذا الإنكار عام 2015.
ووقائع تلك الحرب التي شارك فيها حلفاء كل من الطرفين كانت عند السوفييت حرباً وطنية أظهرت الاتحاد السوفييتي دولة عظمى، ووقائع الحرب اليوم على سورية أظهرت روسيا أيضاً دولة عظمى، وكلتا الحربين انتقلتا من الوطنية إلى العالمية، ففي سورية تدفق الإرهابيون من أربع جهات الأرض لاستهداف رسوخ الحياة الوطنية فيها وكلتاهما اقترنتا بالصبر الاستراتيجي والتضحيات الجسام .
وهي حرب وطنية سورية عظمى بكل معنى الكلمة لأنها الحرب التي ستعيد يكل تأكيد صياغة مستقبل العرب والمنطقة لعقود طويلة قادمة، ولأنها الحرب التي (ستصحح التاريخ) العربي الحديث الذي شهد ما شهد من مؤامرات ودسائس وإحتلالات وإغتصاب للأرض والمقدسات،.
وصمود سورية هنا هو المحطة المضيئة التي شكلت شرارة إنطلاق التظام العالمي الجديد والتي ستؤسس أيضاً لانبعاث حقيقي للحضور العربي في عالم الغد .
إن صمود سورية هو حصيلة عوامل تاريخية وحضارية وثقافية وسياسية مختلفة، وهذه العوامل تتضافر الأن لتؤهل سورية للمرحلة الجديدة مرحلة ما بعد الصمود، وهي فيض الروح الوطمية وحربها العطمى المقدسة لمعانقة الإنتصارات التي تنتظرها أمتنا منذ أن غرقت في ثبات التخلف والتبعية وسيطرة الرجعية العربية وهيمنة الإستعمار الغربي.، ولا مبالغة في ذلك: هي حرب وطنية
ووطنية الحرب على سورية تتبين من خلال الاستهداف الضاري والمبرمج للمكونات الوطنية والعروبية التي طالما كانت سورية أنموذجها الأسطع، وعظمتها تأتي من هذا الصمود الأسطوري الذي سيتجلّى وبمنطق التاريخ والواقع عيداً وانتصاراً لاشك ينتظرهما بيقين الشارع العروبي وأحرار العالم وشرفاؤه بقيادة ربّان أصيل.