“رحلة السّفرجل”.. الانحياز للواقع والتشبّث بالأحلام
هي رحلة مختلفة عبر الزمن، ولا يكمن الاختلاف هنا في البعد عن الواقع، بل إنها أقرب ما تكون منه، حتى إنها تتعمّد محاكاته في أدقّ جزئيّاته وتفاصيله لتنسج صورة أصيلة عنه، لكن ما يميّز هذه الرحلة أنها تضعنا وجهاً لوجه مع أحلامنا المؤجلة، وربّما الضّائعة، هي مواجهة مع العمر الذي يدقّ جرس حياة تمضي وتتسرّب من بين أيدينا دون أن نشعر، معلناً نداء يريد له أن يعلو ليصل لكل منّا، أن تمسّكوا بأحلامكم، اسعوا من أجل تحقيقها، وسابقوا الزمن للوصول إليها..
أن يسلّط عمل أدبي ما الضوء على واقع اجتماعي ما فيتناوله من خلال شخوص حية ترافقه على الورق، ليروي معاناتها ويمضي بأحداثها في سرد لأزمة إنسانية محددة، وسعي لإيجاد حلول لها من خلال طرحها ووصف أبعادها والتنبه لنتائجها، فهذا بحد ذاته محاولة تندرج ضمن الغاية الأسمى لأيّ عمل أدبي، غاية لطالما حاول الأديب السوري الراحل وليد إخلاصي التوجه نحوها، وهو الروائي والمسرحي والقاص المتميز، فهو ينطلق من واقعه، ويصوّر هذا الواقع بحَرفيّته تماماً كالحقيقة، منتقياً شخصياته من صلب الحياة ويمضي بها وتمضي به بكل شفافية نحو مصائرها..
بهذا النهج السردي يبدأ إخلاصي الرحلة؛ “رحلة السفرجل”، فالنَّفس الحكائي واقعي إلى حد بعيد، ليجسّد عبر شخصية “معين السفرجل” المهندس المعماري، معاناة المتقاعد، معبّراً عن الأحاسيس التي تنتابه في هذه المرحلة التي تختلط فيها بوصلة المشاعر وتضيع بين التوجه نحو البدايات الجديدة، ومدى القدرة على تحقيقها، ومواءمة الظروف والمعطيات، وبين مرحلة مضت يتأمل فيها، من بعيد، طموحاته المؤجلة وأحلامه الضائعة التي لم يتمكن من تحقيقها،مروراً بعالم الذكريات التي تجتاح حياة المتقاعد وتلحّ عليه، عالم حافل بالكثير من التفاصيل التي تتهافت عليه دون القدرة على إيقافها، يقف بين وقت وآخر ليعود إلى شريط العمر فيمر أمامه بكل صور الماضي بكل تفاصيلها وأحاسيسها، ليعيشها من جديد ويستفيق منها على ذكريات وحسب..
حاول الكاتب في تناوله واقع البطل التأكيد على ضرورة رسم الحلم وأهمية السعي الجاد والدؤوب لتحقيقه، فمعاناته الكبرى تتمثل في عدم قدرته على تحقيق طموحه الذي استمر بالإلحاح عليه حتى بعد تقاعده، ليستذكر على الدوام حلم “معين” طالب الجامعة الذي لن تكون له حدود والذي لطالما عبر عنه ضمن مساحات واسعة في الحكاية.. “سأضع تصاميم لمسرح المدينة ولمسرح صيفي لليالي حلب العليلة وأتخيله عند سفح تل يواجه القلعة في الطرف الآخر من المدينة، سأتعامل مع حجر حلب في تصاميمي المختلفة، محطات لانطلاق المركبات في الجهات الأربع، مبان لأهل الدخل المحدود تنافس في الجمال عمارات الموسرين، أفكار كثيرة لحدائق تضم مراكز للموسيقى تعزف في الأعياد والعطل ومراسم للفنانين، لا حدّ أقف عنده”، كما كانت القضية الفلسطينية حاضرة في أدب إخلاصي، وفي ذاكرته، في محاولة للتعبير عن التوجه النضالي المقاوم المستمر عبر الزمن، حيث استذكر مشاهد الجموع الغاضبة التي ملأت الشوارع من أجل رفض قرار التقسيم..
المكان بطل مطلق في هذه الحكاية، وهو بطل لدى إخلاصي في حكاياته، وفي كل سردياته، حلب بأزقتها ومعالمها وعراقتها، فيتماهى بها ويصور أدق تفاصيلها بأسلوب جمالي عذب يصل بها في كثير من الأحيان إلى مرحلة القداسة، معبراً عن ذلك بأسلوبه الخاص.. “كانت أشعة الشمس تسقط عمودية على القلعة فذابت ظلال النور العالي في بطن التل الذي ما زال يحمل جوهرته على أكفه المنبسطة للسماء، فيبدو الأمر كأن الولادة التاريخية للقلعة قد أتت من القمة، مخالفة بذلك قانون الطبيعة في الولادة، وليصبح ذلك الأثر العريق جانباً من معجزات الطبيعة”..
قد يكون جنوح إخلاصي نحو الواقعية أفقد الحكاية في بعض جوانبها عناصر التشويق، إلا أنه تمكّن عبر رمزية تعمّدها، من إيصال الرسالة التي أرادها، والتي عبّر عنها بشكل غير مباشر في الكثير من المشاهد، لكنها كانت أكثر وضوحاً في النهاية الصادمة وغير المتوقعة والتي جسدت بعمق مقولة الرواية..
امتازت الحكاية بنسيج لغوي مكثّف، وبقدرة واضحة على إحكام بناء مشاهد الحكاية وتتابع أحداثها، رغم أنها مرت عبر مراحل زمنية مختلفة، إلا أن ذلك لم يفقد هذا البناء تماسكه، ويحسب للكاتب قدرته على الوصف والتصوير، وصف الشخصيات والأمكنة، وتجسيدها عبر تصوير تفاصيلها بعناية ودقة، كما تمكّن إخلاصي من التحيّز للونه الحكائي، عبر ما أسماها الحكاية، بعيداً عن تسمية الرواية وعن شروطها الفنية وضروراتها وقيودها، فكان له ما أراد من شكل سردي يتناسب إلى حد بعيد مع أسلوبه الخاص في الكتابة..
هديل فيزو