ابن الإنسان
يحاور الرسام البلجيكي رينيه ماغريت (1898-1967) البياض المتروك للبوح والتجليات عبر طمس ملامح الوجه في أغلب رسومه التي تترك سؤال الوجود حائراً بين ضفتي التصديق والنفي..!
تأسرك أناقة الأفق في عصرنة الخطوط واللون المتاح أمام عين القارئ.. حوار اللون والعين والإحساس كمعادلات بصرية وولادات مستحبة في استقطاب أمواج الامتداد اللوني المدروس.
ولكل لمسة أو ضربة ريشة إيحاء وملاءات تفرش الاتزان على نحو خلاق.. سؤال إشكالي يطرحه “ماغريت” في لوحته ابن الإنسان..تفاحة خضراء تخفي ملامح الوجه، دلالات عديدة تخفيها تلك التفاحة وأسرار متروكة للتحليل والتكهن.
وللتفاحة رموز مدججة بالبداية والشرارة الأولى.. ومنها انبثقت ميثولوجيا الخطيئة.
اللوحة أخفت معالم الوجه، وبقيت تفاصيل الرجل العصري الأنيق المطمئن الواثق.. وهنا مفارقة أخرى..مادامت كل هذه الثقة والشجاعة في وقفة الرجل، لماذا حار السؤال وترك لنا التخيل مفتوحاً..؟
في الميثولوجيا، حكايات تمجّد الوجه وانعكاساته على سطح الماء كـ”نرسيس” مثلاً.. والوجه بكل انفعالاته، المخبوءة منها والظاهرة، يشي بدواخل الإنسان وأحاسيسه وعناوين النوايا..فلكل وجه حكاية تزين حامله.. كأي حمولة نصية ترفع من سوية القول.
ويخطر في بالنا سؤال له علاقة بالبعد السيكولوجي..هل إخفاء الوجوه مرتبط بطفولة أم بحادث عابر أم قصة متخيلة تمرّ على العقل والروح كشريط تجرّه إلى المراحل وتقاطعاتها..؟
عانى الفنان “ماغريت منذ طفولته انعكاسات وفاة والدته التي انتحرت بإلقاء نفسها في أحد الأنهر..! وعندما انتشلوها، وجدوا ثوبها يغطي كامل وجهها.. ربما أثر ذاك المشهد بحياة الطفل( الفنان) فأراد تجسيد هذا المخفي تلبية لشريط الذكريات التي كانت تدهمه وتقضّ مضجعه في كل وقت… لا بل كانت الصور الطفولية تشكل عبئاً في تخيلاته وتصوراته، حتى أثرت عليه تأثيراً واضحاً، وقد تجلى ببعض رسومه.
غطّى “ماغريت” كل وجوهه، وألبسها أناقة اللون مع تكثيف السؤال الفني الجوهري الوجودي.. وكأنها حفلة أو وليمة لقراءة الواقع دون مواربة، وتسليط الضوء على فلسفة أبعد من تشابك خطوط وضربات فرشاة وعبثية فنان.
الكثافة الحسية التي تغرقنا عادة بتفاصيلها، يأخذنا الفنان إليها باشتهاء لايوصف.. وماهي إلا دليل على جاذبية المجاز.. وهذا يتماهى مع بوحه الصادق: “كل شيء نراه يخفي خلفه شيئاً آخر، والإنسان يتوق على الدوام لرؤية ما يختفي وراء ما يراه”!
رائد خليل