ثقافة وفن

دراما “الصدفة” في اللاذقية

 

كنت سأحتقر نفسي بالتأكيد لو قمت بالتقاط صورة لتلك الملامح وقد غزاها ما رأيت، شيء لا تفسير له، قهر رغبتي الشديدة بمحاولة الاحتفاظ بتلك الملامح ضمن صورة في تلك اللحظة بالذات، لأن التعبير الصادر عنها، فريد، ولا يمكن أن يتكرر حتى من صاحبة تلك الملامح لو أرادت ذلك!

الأم التي تفقد ابنها بموته، يتسمّر الحزن المطرز بالتسليم على ملامحها، وهو بلا شك “حزن مهول”؛ يُقال إن القدرة الإلهية، تتدخل في وجع كهذا الوجع، لتخفف من سطوته السرمدية.

لكن تلك الملامح التي نمت كأعشاب نيسان على وجه تلك السيدة، ما من وصف لها، رغم أن سببه قد تجدونه عادياً، بل أقل من عادي، لكنه ليس كذلك.

في اللاذقية وضع المحروقات أسوأ حالاً بكثير من دمشق، ليس المحروقات فقط، بل الماء، الكهرباء، والإنسانية برمّتها، لكن ذلك الوجه بملامح الحزن المهيبة التي غزته، جعلت المحروقات هي الأكثر فتكاً لحظتها.

في “السرفيس” المتجه من اللاذقية إلى قرية “الحارة” استطاعت أخيراً تلك السيدة، حشر نفسها بين بقية الركاب الذين فاق عددهم الـ ٢٥ راكباً، بينما تتسع مقاعده لـ ١١ راكباً فقط، حتى صار تحريك اليد للبحث عن فراغ ما، شبه مستحيل، ومن شباك الحافلة، كانت تنظر إلى ابنها الذي بقي واقفاً على الرصيف، فلا متسع ولا حتى لراحة يده أو لأنفاسه، وقد رفض رغم عروض العديد من الركاب، أن يركب مكان أحدنا.

عندما بدأت عجلات الحافلة بالدوران، تابع أمه بنظراته، وهو يطمئنها بأنه سيلحق بها قريباً، لكنها تعلم أن تلك الـ “قريباً” قد لا تكون اليوم، بسبب ندرة وسائل النقل، فلا محروقات متوفرة لذلك، ولا يوجد إلا “التكاسي” التي تعادل أجرة استخدامها، من “عروس المتوسط” إلى القرية المذكورة أكثر من نصف الراتب، وهما كما البقية في المكان، من الفقراء.

جالت بنظراتها في الحافلة، وكأنها تتوقع أن معجزة ستقع، وستجد مكاناً فارغاً لفلذة كبدها، وعندما لم تجده، طلبت أن تنزل من السرفيس لتبقى مع ولدها، الذي عاد ليطمئنها بنظراته، بأنه سيلحق بها خلال أقل من نصف ساعة، طالباً إليه أن تسبقه، لكن هذا لم يخفف من حدة قلقها، بخطواته الثقيلة المسموعة وهي تطأ قلبها، وعندما بدأت الحافلة بالابتعاد وأيقنت أن معجزتها التي طلبت، لن تقع، ضمت راحتيها وعلى وجهها راحت ملامح لم يشاهدها أحد سابقاً، تعلو قسماتها مبرزة بحدة، الأخاديد التي تركها الزمان فوق وجهها، لم تكن عجوزاً تماماً عندما صعدت إلى الحافلة، لكنها صارت وعلى نحو لا يصدق، طاعنة في العمر، ظهر الشيب بغتة في شعرها وكأنه كان لا مرئياً، قبل أن تغلق هذا المشهد المهيب، بوضعها منديل يدها الموشى، على فمها، حتى بدت وكأنها نفرت من لوحة خالدة، إطارها الأبد، أما ألوانها فمن طيف القهر!

تمّام بركات