قراءة منهجيـة فـي العمليـة الروسيـة فـي دونباس
( مواجهـة النازيـة الجديدة وتغييـر النظـام أحادي القطـب – ودور سورية )
أولاً- ما هي القصة ؟..
هي قصة صدام بين انموذجين ، تصورين ، لبنية النظام الدولي المعاصر :
• أنموذج يسعى لعالم تعددي خالٍ من الحروب ، قائم على احترام مبادئ القانون الدولي ومقاصده ، تُحل المشاكل فيه عبر الحوار البناء وغيره من الطرق السلمية ( مثال دول البريكس ) ..
• وأنموذج يسعى لتعزيز القطب الواحد واستمرار المواجهة والأحلاف والتسلح وتهديد الوجود البشري بكامله..
مراحــــل القصــــة :
1- المرحلة الأولى – جاء أول انتقاد واضح وقوي لسياسات القطب الواحد في موقف الرئيس الأسد أثناء قمة بيروت (2002) حيث حذر الرفيق الأمين العام العرب من مخاطر ما كانت أمريكا تخطط له تجاه العراق وانعكاساته على العرب جميعاً . ثم جاء موقف سورية في مجلس الأمن (2002- 2003 ) عند مناقشة ما سمي ( خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية ) ليؤكد احتجاج سورية على القطب الواحد . كان يسود في المجلس موقفان ، الحرب فوراً ( أمريكا وبريطانيا ) وتأجيل الحرب كحل نهائي وإعطاء المفاوضات فرصة ( فرنسا ). وكانت الصين وروسيا منشغلتين بهمومهما الداخلية بعد التحولات الكبرى لديهما ( المشروع الإصلاحي في الصين ، ومشروع إعادة بناء الدولة القوية في روسيا بعد مرحلة يلتسين و غورباتشيف ).
ومن الواضح أن الموقفين يعتبران الحرب حلاً ، بينما تميز الموقف السوري عن الموقفين المذكورين في أنه نادى بإلغاء الحرب إلغاءً تاماً من قاموس العلاقات الدولية ، والتركيز على حل الخلافات بالطرق السلمية . كان ذلك أول ضوء في النفق المظلم ، وأول (( إعلان )) حول ضرورة الانتقال من عالم الحروب إلى عالم التفاهم .
2- المرحلة الثانية – إعلان موسكو كانون الثاني 2005 : وقع الرئيسان الأسد وبوتين أعلاناً تاريخياً أكدا فيه ضرورة الانتقال إلى نظام عالمي جديد يستند إلى نبذ الحروب والعدوان والهيمنة والاحتلال والعنصرية ، واحترام مبادئ القانون الدولي ومقاصده . وهذا الإعلان أول تحرك دولي من أجل إنهاء النظام أحادي القطب .
3- المرحلة الثالثة : هزيمة أمريكا وتابعتها جورجيا في حرب أوسيتيا (2008) حيث أدى الدعم الروسي للأوسيتيين إلى حصول أوسيتيا الجنوبية على استقلالها ، واعتراف روسيا وسورية وفنزويلا ونيكاراغوا بها ..
4- المرحلة الرابعة – قرار التصدي للحرب على سورية (2011 ): أحد أهم دوافع هذه الحرب (( تأديب )) سورية بسبب دورها في المرحلتين السابقتين ووقوفها المقاوم في وجه سياسات الناتو في المنطقة .. إضافة لتحالفها مع الموقف الإيراني في وجه الهيمنة الأمريكية . وكان قرار التصدي أول عمل على مستوى المجابهة الميدانية تحدياً للناتو والقطب الأوحد .
5- المرحلة الخامسة – التحالف السوري الروسي الميداني على الجغرافيا السورية بدءاً من عام 2015 .
6- المرحلة السادسة : انفجار الصراع بين روسيا والناتو في أوراسيا .. وهذه هي مرحلة ولادة النظام العالمي الجديد بعد أن (( حملته أمه وهناً على وهن )) في المراحل السابقة ..
ثانياً – كيـف يمكـن تقييـم ما يجـري ؟..
لنفترض أنك مراقب محايد تماماً , وأردت تقييم مايحدث بين روسيا والناتو , ثم طلبت من كل طرف إيضاح موقفه. فكان الموقفان كالآتي :
• النـــاتـــــــــو – لدينا مبدآن :
1- تعزيز أمننا الخاص ( وليس الأمن الشامل المتبادل ) ..
2- نرى في روسيا عدواً استراتيجياً ( وليس شريكاً ) ..
لذلك نعمل على الاستمرار في توسيع الناتو وصولاً إلى حدود روسيا كلها . وقد قمنا في السنوات السابقة بتوسيعه شرقاً آلاف الكيلومترات , حيث انضمت إليه عشرات الدول في (( أوروبا الشرقية )) بعد انهيار حلف وارسو السوفييتي . كما قمنا بضم دول كانت منضوية في الاتحاد السوفيتي نفسه ( ليتوانيا واستونيا ولاتفيا ). ونعمل على ضم أكرانيا والسويد وفنلندا شمالاً , وذلك من أجل :
1- عرقلة الأسطول الروسي في بحر الشمال ..
2- مراقبة بحر البلطيق لعرقلة تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا ( السيل الشمالي الأول والثاني )..
3- مراقبة وعرقلة السيل الأوسط الذي يمر عبر أكرانيا غرباً .
4- السيطرة على غالبية الشاطئ الشمالي للبحر الأسود وطرد الروس من شبه جزيرة القرم ..
5- السيطرة على بحر آزوف شمال شرق البحر الأسود ..
وبعد ذلك سنعمل على ضم جورجيا , وذلك من أجل :
1- السيطرة على الشاطئ الجنوبي الشرقي للبحر الأسود ..
2- استكمال محاولة تحويل البحر الأسود إلى بحيرة للناتو , وذلك لأن الدول الواقعة غرب البحر هي أعضاء في الناتو ( رومانيا وبلغاريا ) ..
3- خنق أسطول البحر الأسود الروسي من جميع النواحي ، خاصة أن الشاطئ الجنوبي تسيطر عليه تركيا (عضو في الناتو ) وتسيطر على مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يصلان الأسود بالمتوسط ( المياه الدافئة ). وكما تسيطر تركيا على بحر مرمرة وتتشارك مع اليونان في السيطرة على بحر إيجة ( واليونان عضو في الناتو أيضاً ).
4- بهذا نكون قد أضعفنا تماماً القوة البحرية لروسيا في الشمال والجنوب وفي البلطيق ..
• روسيـــــــــــــا – لدينا مبدآن :
1- مبدأ الشراكة ( مقابل مبدأ المواجهة )… الذي يعني التعاون والتعايش والسلام واحترام المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بيننا , وانعكاس ذلك على السلام العالمي برمته ( نمط دول البريكس )..
2- مبدأ الأمن الشامل ( مقابل مبدأ العداء ) .. الذي يعني أمن الجميع , أمننا وأمنكم . وأن يتم تثبيت هذا المبدأ عبر وثيقة في إطار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي نحن وأنتم أعضاء فيها . بحيث تصبح الأحلاف العسكرية من الماضي , وقد قمنا بحل حلف وارسو على هذا الأساس . ونحن لا نفرض عليكم حل حلف الناتو فهذا أمر يدخل في إطار سيادة دولكم , لكن ما نريده أن نضمن أمنكم وتضمنوا أمننا بالتبادل . ولقد تقدمنا بهذا الاقتراح إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء القمة الأخيرة بوتين – بايدن في 21/12/2021, ولم نتلقَ أي إشارة إيجابية وإنما محاولات توسيع الناتو شرقاً حتى حدودنا .. ( انظر التعميم رقم /163/ تاريخ 10/12/2021 بعنوان قمة بوتين – بايدن )…
لقد أخلفتم بوعودكم في مسألة الأمن الشامل غير مرة :
1- عندما قمنا بإلغاء حلف وارسو وعدتم بأن الناتو لن يتقدم شبراً واحداً باتجاه الشرق ماعدا القسم الشرقي من ألمانيا الذي اتحد مع القسم الغربي . لكنكم أخلفتم بهذا الوعد وانتهزتم ضعف روسيا وانشغالها بإعادة هيكلة ساحتها الوطنية ومددتم الناتو إلى كل أوروبا الشرقية والبلقان تقريباً ، ماعدا صربيا التي رفضت الانضمام (البوسنة قدمت طلب الانضمام ).
2- لم تلتزموا بمفهوم الأمن الشامل الذي أقره من حيث المبدأ اجتماع استانبول للأمن والتعاون الأوروبي عام 1999.
3- قمتم بتسليح دول أوروبا الشرقية بالأسلحة الثقيلة ، إضافة إلى برنامج ( حرب النجوم في أوروبا الشرقية ) الذي يؤكد استراتيجيات التسلح النوعي ضدنا ، ضاربين بعرض الحائط السلام والأمن الدوليين ..
4- قمتم بدعم النازية الجديدة في أكرانيا وتعزيز العلاقة بين النازيين الجدد و داعش وغيرها في سورية ..
مســألة الدونبــاس – دونباس هي المنطقة الشرقية من أكرانيا ، غالبية سكانها من القومية الروسية . ومنذ عام 2014 طالب السكان الانفصال عن أكرانيا وإنشاء دولتين مستقلتين . أرسلت الحكومة الأكرانية الجيش والمرتزقة من النازيين الجدد الذين سيطروا على مناطق واسعة جداً من دونباس وقاموا بالتصفية العرقية لكل من يتكلم الروسية .
في 05/09/2014 عقد اجتماع في مينسك ( عاصمة بيلاروسيا ) لأعضاء مجموعة الاتصال المؤلفة من مندوبين عن الدونباس وأكرانيا وروسيا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي . وتم التوقيع على بروتوكول مينسك الذي يتضمن وضع دستور جديد لأكرانيا يضمن لقسمي الدونباس ( دونيتسك و لوغانسك ) الإدارة الذاتية ، لكن الجانب الأكراني لم يلتزم بالاتفاق بعد أن وقعه ، بل قام بتعزيز قواته مع المرتزقة واستمر باضطهاد شعب الدونباس، كما أنه لم يلتزم ببروتوكول مينسك الثاني ( 12/02/2015 ) القاضي بوقف القتال في الدونباس .
ثالثـاُ – لمـاذا أكرانيــــا ؟..
لروسيا علاقة خاصة بأكرانيا ، من أهم علائهما :
1- ظهرت القومية الروسية ، أول ما ظهرت ، في منطقة كييف ، عاصمة أكرانيا الحالية . وهذه المجموعة الروسية أسست ما يسمى بكييفسكايا روسي ( أي كييف الروسية ) وأول مايسمى مالا روسيا ( أي روسيا الصغيرة ). لذلك فكييف على نهر الدينبر هي أصل القومية الروسية . وقد اتجه الروس شرقاً نحو جبال الأورال بسبب صراعهم مع البولونيين غرباً . وكان الأكرانيون عبارة عن مجموعة صغيرة غربي النهر بين الروس والبولونيين ..
2- ركز الاتحاد السوفيتي على تنمية أكرانيا التي كانت جزءاً منه وذلك لسببين ، أولا : وجود المعادن بوفرة فيها ، خاصة منطقة الدونباس . ثانياً : بسبب أنها ” جسر روسيا ” باتجاه الغرب من أجل التواصل الاقتصادي مع أوروبا . لذلك كانت غالبية الاستثمارات الصناعية السوفيتية تتجه نحو الجزء الغربي من الاتحاد السوفيتي ، أي أكرانيا .
3- حكم الاتحاد السوفيتي بعض القادة من أكرانيا مثل نيكيتا خروتشوف ( 1953-1964) وليونيد بريجينيف ( 1964-1982) . خرتوشوف اقتطع من روسيا عام 1954 شبه جزيرة القرم وضمها لأكرانيا التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي .
4- إضافة إلى الأبعاد القومية الروسية هناك بعد آخر وهو أن أكرانيا الجديدة نشأت إثر انهيار الاتحاد السوفييتي عندما كانت الحكومة في موسكو ضعيفة . لذلك فإن المسألة تتعلق بإعادة رسم الدول الناتجة عن انهيار اتفاق يالطة وبوتسدام في الحرب العالمية الثانية . أي أن المسألة لا تتعلق بدول (( مستقلة ذات سيادة )) وإنما بدول نشأت مؤخراً في ظروف قاهرة .. ( مثلاً انقسام يوغوسلافيا إلى ست دول وتشيكوسلوفاكيا إلى دولتين إضافة إلى ظهور الدولة الألمانية الموحدة ).
5- إن انضمام أكرانيا إلى الناتو يجعل أي صاروخ من الناتو يصيب العاصمة الروسية بدقائق قليلة – ربما ثلاث دقائق لا أكثر .
رابعــاً – لمـاذا طالـت مـدة الحــرب ؟ :
1- روسيا لا تتبع في حروبها استراتيجية ما يسمى بالحرب الخاطفة ( Blitz Krieg)التي اخترعها هتلر في الحرب العالمية الثانية , واستخدمها الكيان الصهيوني في حرب 1967 .
2- روسيا تحارب في أرض صديقة , بل بين شعبها , خاصة في الدونباس والقرم , لذلك تحاول عدم القيام بأي تدمير مدني , وتركز على الاهداف العسكرية فقط ..
3- استراتيجية الحرب الطويلة تعتمد تخفيف الأضرار في الأرواح والبنى التحتية إلى أقل شيء ممكن..
4- البيانات العسكرية الروسية تؤكد أن الخطة تسير كما هو مرسوم ..
خامسـاً – هــل نجحــت روسيـــا حتــى الآن ؟ :
1- تؤكد الأبحاث الاختصاصية الجادة التي تصدر عن باحثين في البنتاغون أن الخطة الروسية إجمالاً تحقق نجاحاً ..
2- تنقسم الخطة الروسية إلى ثلاثة مستويات , تكتيكي , عملياتي , استراتيجي :
• المستوى التكتيكي : ليس هدفه السيطرة على الأرض وإنما تعطيل أي دعم للقوات الأكرانية , وفرض مواقف سياسية عليها . يمكن في هذا المجال الحديث عن حصار العاصمة كييف , وضرب المواقع العسكرية في منطقة لفوف شمال غرب أكرانيا ( من أجل منع الإمدادات العسكرية من بولونيا القريبة ) .
• المستوى العملياتي : هذفه السيطرة على الأرض مؤقتاً , عملياتياً , لدعم التحرك الميداني الاستراتيجي. مثل العمليات في أوديسا في الجنوب الغربي وخاركوف في الشمال الشرقي ( لحماية بيلاروسيا ) . وكذلك الاستيلاء على خريصون شمال القرم لتوصيل المياه إلى القرم بعد أن قطعتها حكومة أكرانيا منذ عام 2014 عندما بنت سداً يمنع وصول المياه ..
• المستوى الاستراتيجي : هدفه السيطرة على الأرض : تحرير جميع أراضي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك , وكذلك ماريوبول , وحماية شبه جزيرة القرم ..
سادسـاً – هــل حققــت روسيـــا أهدافهــا ؟ :
1- الأهداف الجيواستراتيجية :
– تحرير الدونباس – تحقق .
– تحرير ماريوبول – وتأمين التواصل البري بين القرم والدونباس وروسيا – تحقق .
– حماية القرم – تحقق .
2- الأهداف الجيوسياسية :
– إعلان حياد أكرانيا – لم يتحقق بعد .
– الاتفاق مع الغرب على منظومة الأمن الشامل – لم يتحقق بعد .
سابعــاً – ما هـو انعكـاس الحــرب علـى سوريـــة ؟ :
• التأثيرات الإيجابية ( وهي الأكبر والأهم ) :
1- أن مشروع سورية لمواجهة الناتو ودورها الطليعي منذ عام 2011 في التصدي لهذا الحلف اكتسب بعداً عالمياً على المستوى الميداني بعد أن كان تأثيره عالمياً يقتصر على المستوى السياسي فقط .
2- أن هذا الزخم العالمي يعزز دور سورية كواحد من البلدان الصانعة للنظام العالمي الجديد ..
3- أن تأكيد روسيا على حلفها مع سورية ، وإسقاطها لجميع الإشاعات حول إمكانية التبادل مع أمريكا ، يعزز الدور العالمي لسورية . خاصة أن سورية ليست مادة تستطيع دولة في العالم , صديقة كانت أو عــدوّه , أن تقرر مصيرها ..
• التأثيرات السلبية :
1- غلاء المواد الغذائية والطاقة في السوق العالمية ..
2- توتر الأوضاع العالمية بشكل عام ..
3- إمكانية تطرف الغرب وتصعيد الحصار على سورية .
أخيراً : لقد التزمت روسيا سلوكاً سلمياً يقوم على ضبط النفس طوال ثلاثة عقود ، طمعاً بتعقل الطرف الأخر والبدء بعملية الشراكة والتفاهم . حتى أن روسيا تحملت ما يقوم به المرتزقة وجيش أكرانيا من عمليات إرهابية داعشية ضد سكان دونباس ولم تتدخل . بل إن روسيا لم تعترف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك عند إعلانهما أملاً بتطبيق بروتوكول مينسك ، وهي لم تعترف بهما إلا قبل بدء العملية الحربية بيومين استجابة لطلب دولتين مستقلتين ذاتي سيادة ( أي أن تدخلها لا يخالف القانون الدولي ). وكانت العملية بالنسبة لروسيا الحل الأخير قبل أن يسيطر الناتو على أكرانيا ويستمر في التمدد .
ولعل أهم مشكلة أنه لا يوجد في دول الغرب الكبرى ( الولايات وبريطانيا و فرنسا وألمانيا ) قادة لديهم شيء من الحكمة ( بحجم ديغول وروزفلت وتشرشل وويلي براندت وأديناور ) ، بينما هناك مجرد رؤساء – تحت المستوى العادي – أول من يستهزء فيهم شعوبهم ..
بالمقابل في سورية وروسيا قائدان تاريخيان يستولدان النظام العالمي الجديد من رحم المعاناة وآلام الولادة ، بينما يعيش العالم حشرجة احتضار النظام العالمي القديم ..
والخلود لرسالتنا
مكتب الإعداد والثقافة والإعلام المركزي