كتاب “انتحار الغرب” أكثر من نبوءة!
عام 1947 عندما وضع وزير الحرب ومن ثم الخارجية الأمريكي، جورج مارشال، الخطة المسماة على اسمه، من أجل إعادة إعمار أوروبا، المدمرة بفعل الحرب العالمية الثانية، لم يكن يخطر في الشريحة الشعبية الأوسع من الأوربيين، والذين دفعوا الثمن الأبهظ في تلك الحرب، أن تلك الخطة الاقتصادية، ستكون بوابة الهيمنة الأمريكية -باتفاق مع أنظمتهم السياسية-على القارة العجوز، ليس بما يخص الشق الاقتصادي الذي أعلنته الخطة، بل حتى بالشأن الثقافي والفكري والفلسفي، حينها ظهرت العديد من الصيحات الرافضة لهذه الهيمنة الكلية على طبيعة الحياة الأوربية نفسها، بما يصادر وبشكل حاد أهم مكوناتها الفلسفية والثقافية، محذرة من اضمحلال ومن ثم تلاشي الشخصية الأوروبية وليس ذوبانها في تلك الأمريكية، لكنها لم تجد لها مكانا للوقوف ولو حتى على رف التاريخ، فثمة جنود من نوع أخر لدى “مارشال” كانت كبريات دور النشر والجرائد الأمريكية والأوروبية، الموجهة نحو الرأي العام في أوروبا عموما، تنشر لهم دراساتهم ومقالاتهم ، مع تعريف بكونهم من “فلاسفة” أوروبا الجدد، وبأنهم يبشرون بفلسفة حياة أوروبية جديدة، مع تغيير كبير في المفاهيم والقناعات والرؤى التي صقلت الشخصية الأوروبية بمرور الزمن، ومن كبار المنظرين لهذا الطرح: جاك دريدا، وميشيل فوكو، وجان بول سارتر، الذين روجوا لحياة “استهلاكية” مريحة حسب وصفهم، كان من نتائج هذا الترويج، ظهور العديد من المؤلفات التي تعلن موت الغرب رسميا! ولتبدأ بعدها بالظهور الجدلي، العديد من الكتب والمؤلفات، الدراسات والأبحاث، التي ذهبت هذا المذهب.
وفي نظرة عامة إلى واقع الغرب “أوروبا-أمريكا” الفكري والفلسفي، الأدبي وحتى الفني” فإننا سنجد غيابا مريبا لأسماء يجمع عليها العالم، من الفلاسفة والمفكرين والأدباء، الأمر الذي لم يحصل أن حدث في القارتين تاريخيا-أوربيا على الأقل-، فلطالما حضر في واجهة المشهد الحضاري الغربي، وفي مختلف العصور، حتى في تلك المعروفة بكونها عصور “الانحطاط” العديد من كبار المفكرين والفلاسفة والأدباء الغربيين، والذين يمكن القول إنهم مكنوا “غربهم” من احتلال العالم حضاريا، وصار فكر أو مذهب بعضهم، يمتلك سطوة أن يكون منهجا حياتيا وعقائديا، وهو ما حصل مع فلسفة “نيتشه” مثلا وتنظيره لمفهوم “السوبر مان”؛ هذا الخواء في المشهد الفكري والفلسفي والفني، وتصدر السياسيين المتعطشين لمزيد من الاقتتال والدماء، بدافع من قوة السلطة بأثافيها الثلاث، كان من الأسباب التي أدت إلى تضعضع المنظومة القيمية الغربية، والتي بقيت لمئة عام، مصدر اعتزاز الغربيين وثقتهم الكبيرة بحضارتهم، الحضارة التي يحدد كل من الكاتبان ريتشارد كوك-سياسي أمريكي- وكريس سميت-رجل أعمال ومثقف بريطاني- أعمدتها الستة في كتابهما “انتحار الغرب” الصادر عام2009 وكيف تعرضت هذه الأعمدة للزعزعة العنيفة، بعد أن عانت طوال قرن، من هجوم عنيف عليها من داخل الغرب، حتى لم تعد ملهمة له، ما يجعل -حسب الكتاب- الانجراف نحو الانتحار الجماعي أمرا واقعيا وقابلا للحدوث!
يطرح كل من كوك وسميث، مجموعة من الأسئلة التي تدور في خاطر الغربيين، والتي يشكك بعضها بوجود خصوصية للحضارة الغربية، أسئلة عمومية وشائعة بين الناس، من قبيل: لماذا كنا متقدمين ثم صرنا متخلفين؟ لماذا انتهى الغرب إلى حالة التلاشي المعاصر؟ ما خصوصية الحضارة الغربية؟ ما سر نجاحها؟ لم هي اليوم مهددة؟ وهل بمقدورها الاستمرار؟ وهي أسئلة أثارت ردود فعل إعلامية وسياسية على نطاق واسع، ذهب معظمها للتأكيد على صوابية الطرح، وسلامة المتن لجهة القاعدة السببية، وللتحذير أيضا من كارثة كبرى ستأتي على العالم الغربي لا محالة.
مؤلفا “انتحار الغرب” وبنظرة عامة على سيرتهما الشخصية، سنجد أنهما من أصحاب الخبرة الحياتية المحنكة، على المستوى الأكاديمي والاجتماعي، “ريتشارد كوك” رجل أعمال ومثقف وكريس سميت سياسي أمريكي محنك، شهدا أوج “العظمة” التي بلغها الغرب، وراقبا أيضا ومن موقع كاشف، العواصف الآخذة بالتشكل عند أعمدته الستة الأساسية، وهي حسب كتابهما: المسيحية، التفاؤل، العلم، النمو، والليبيرالية، الفردية، وهي من سيشكل متن كتاب “انتحار الغرب” بفصوله الثمانية، ليكون حضورها في حياة الغرب قبل مئة عام، وتحديدا إلى عام 1900، هو كفة الميزان التي ستوازن حضورها اليوم ،فحضورها يشكل عنصر القوة ،أما غيابها فيشكل عنصر الضعف ومقدمة الانهيار، بعد تأكيد من الكاتبين، على أن هذه المرتكزات التي بنيت الحضارة الغربية عليها، تم استهدافها والهجوم عليها،فلم تعد “ملهمة ولا موحدة للإنسان الغربي المعاصر ولحضارته”.
وفي تفصيل لعنوان الكتاب، سنجد أن “الغرب” عند كل من سميث وكوك، ليس محصورا بالجغرافيا، بل إنه يصل إلى كل بقعة تسودها الثقافة الغربية، لكن نواته ذاتها: أمريكا وأوروبا، وأستراليا، ونيوزيلاندا، أما “الانتحار” فيريدان به: “النهاية الطوعية التي تفرضها الحضارة الغربية على ذاتها، نهاية لا دخل فيها لعدوان خارجي، والانتحار في الكتاب شكل من أشكال التحول الحضاري الغربي الرائد إلى حضارة أخرى بقيم أخرى بعيدة عن القيم الغربية بالأعمدة الستة المميزة لها”.
يتناول المؤلفان في الفصل الأول من الكتاب، طبيعة “هوية الغرب” وما الخطوب التي تعترض هذه الهوية، التي انتقل الثقل بين مكوناتها، للمكون للاقتصادي، الذي صار منبع قوة الغرب، ما أحدث خللا في أهمية باقي المكونات الحضارية، والتي كان للفكر فيها الدور الأهم، كما أنهما ينتقدان وبشدة، “الهوية القومية” التي كانت وراء إشعال حربين مدمرتين في أوروبا، “لذلك وجب تجاوزها ببناء هوية قائمة على المصلحة الاقتصادية والسياسية: الاتحاد الأوروبي/ الناتو/ السوق الأوروبية المشتركة، لكن هذه الأخيرة نفسها ستتعرض للشخصنة والموضعة، مما سيسمح بظهور ولاءات أخرى شديدة المحلية، ذات منطلقات بيئية وجنسية وعرقية ولغوية”
في الفصل الثاني من “انتحار الغرب” يركز الكاتبان على ما يعتبرانه الركيزة الأساسية في فهم الغرب، وهو “المسيحية” نظرا لكونها حملت “روحا محررة ،ودعت إلى التميز والتفرد وضبط النفس وتحسين الذات، وتفجير الطاقات الفردية من خلال دفع الإنسان الغربي نحو الإحساس بالمسؤولية” فهذا ما نصت عليه العديد من نصوصها، مثل: “إن الله أحب العالم كثيرا إلى درجة أنه أرسل ابنه الوحيد إلى الأرض ليمتزج الإلهي بالإنساني فتتحقق المعجزات”، وقول أناسيوس: “إن الله صار إنسانا لكي نصير نحن آلهة” هذا عدا عن مساهمتها الفعالة في تطور العلوم الغربية، بعد أن دعت للاحتفاء بما صنع “الرب” وفهمه، كما أنهما ينبهان إلى ازدهار المسيحية خارج الكنيسة، بروح تكاد تكون “أقرب إلى المسيحية الأصلية من أي كنيسة معاصرة!” إلا أن الجانب المظلم من المسيحية حسب الكتاب، والمتمثل ب: “الحماسة التبشيرية والتطرف الموروث من المسيحية الأولى” فهي من أشعلت الحروب الصليبية ودفعت الغربيين نحو الرغبة الجامحة للهيمنة على العالم.
تتوالى فصول الكتاب التي تشرح بناء على التحليل المنهجي، بقية المكونات الستة، ففي الفصل الثالث سيبحثان في “التفاؤل” في مصدره وأسبابه، تراجعه ونكوصه، خصوصا وأن الحضارة الغربية كانت محكومة به ومنذ بداياتها، وكيف بدأ هذا المفهوم بالتراجع في القرن العشرين “بسبب سيطرة الكنيسة الرومانية وتقويضها لحكم الذات، وظهور تدين داخلي منكمش وراديكالي” وفي الفصل الرابع تأتي ركيزة “العلم” ليتم تسليط الضوء على دورها في بناء الحضارة الغربية، ومدها لجسور العلاقات الإنسانية بين الشعوب، وكيف تراجع هذا الدور بعد احتكاره لأغراض ومصالح أقلية على المستوى العالمي، وما هو الأثر العنيف المترتب على هذا التراجع، وهكذا تمضي فصول كتاب “انتحار الغرب” في سردها ومناقشتها لأسباب هذا الانتحار القادم، مع قراءة تحليلية لمنطق كل ركيزة من الركائز الست، ومن ثم ربطها بما يوضح الصورة الكلية للطرح الذي تقدم.
قراءة: تمّام بركات