ما بين قمّة جدّة وقمّة طهران
د. عبد اللطيف عمران
يحشد الغرب قواه بأنواعها كافة هذه الأيام على شكل قمم متتالية سياسية واقتصادية وعسكرية حشداً يصدر فيه عن هلع وقلق واضطراب أيضاً، وهو ينظر إلى تراجع أثر هذه القوى على المستويات الإقليمية والدولية، ثم المحلية الداخلية أيضاً، على غرار ما حدث في بريطانيا، وما يمكن أن يليها من دول الغرب، وهو ينظر وينتظر مزيداً من الانتكاسات والارتكاسات.
ومقابل الخيبة التي تظهر جرّاء هذه القمم على شاكلة الخروج “من تحت الدلف إلى تحت المزراب”، نسمع أصوات سياسيين واستراتيجيين وإعلاميين ورأي عام في الغرب تؤذِن بمؤشرات حقيقية تؤكد وجود مصادر واقعية لهذا الهلع والقلق الغربيين المتزايدين في عالم اليوم والغد، فمنذ أيام أوضح طوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، كيف أن العالم يقترب اليوم من نهاية الهيمنة الغربية في السياسة والاقتصاد، وكان ماكرون الرئيس الفرنسي قد سبقه في الإشارة إلى أن العالم اليوم يصبح متعدد الأقطاب، وقد قدم هنري كسينجر آراء مضطربة ومتعثرة في هذا السياق… وكثير من هذا القبيل مما لا تقتصر أسبابه فقط على الأوضاع في سورية أو أوكرانيا أو فلسطين أو اليمن.
بالأمس كانت قمة بايدن مع بعض النظام الرسمي العربي في جدة، والتي انطلقت أحداثها على مستوى الزمان والمكان والأهداف من مطار بن غوريون في الأراضي الفلسطينية المحتلة… وانتهت القمة إلى توصيف لا نوعي عصي على التصنيف، لكنها بالمحصلة كانت فاشلة في تحقيق الهدف المحتفى به مسبقاً صهيوأمريكياً، ولاسيما أنها لم تستطع انتزاع مركزية القضية الفلسطينية، كما أن الأطراف العربية بقيت متمسكة بعدم التصعيد والتوتر الإقليمي، وخاصة مع إيران.
والأهم من ذلك أن بايدن وإدارته وأزلامه أدركوا أن الهدف الخفي لتعزيز القطبية الأحادية في هذه القمة لم يتحقق، فظهر الطموح الصهيوني والأمريكي أقل بكثير من المستوى المأمول، وربما ظهر بايدن في قمة جدّة كأضعف زيارة لرئيس أمريكي إلى هكذا دول، وهكذا أهداف، بعد أن بدأ من الكيان الصهيوني كشحّاذ رافعاً يافطة الصهيونية المسيحية التي باتت ممجوجة -لست بحاجة إلى أن تكون يهودياً كي تصبح صهيونياً- بسبب استمرار موقف الشك السائد منها عند اليهود أنفسهم، مقترناً باعتراضات مسيحية غير قليلة رافضة أن يكون اللاهوت المسيحي في خدمة السياسة الصهيوأمريكية، فلم يحمل بايدن في جعبته شيئاً ذا قيمة لإدارته، وكانت حصيلة قمة جدّة بالنسبة له تذكّر بتعريف أحد فلاسفة الغرب للمجتمع المدني بـ (حَساء المتسوّلين)، ما قد يكون معه الحضور الروسي في الخليج مستقبلاً أكثر فاعلية من الحضور الأمريكي.
وأما قمة طهران أمس فيصعب حصرها في مجال الرد على قمم الغرب السابقة، والتي كان مأمولاً أن تكون قمة جدّة في سياقها، فهناك ردود أخرى على تلك القمم منها استمرار التواصل والتنسيق السوري، والروسي، والصيني، والإيراني، وما يتصل بذلك من محور المقاومة، ومجموعة البريكس الآخذة في التوسّع… إلخ. وصعوبة هذا الحصر نابعة من الوجود الأردوغاني فيها، هذا الوجود المستمر على مسرح الأحداث الإقليمية والدولية كإشكالية عامة حتى لتركيا نفسها.
على أية حال، القمة تأتي في إطار مستمر للتواصل بين الدول الثلاث، ولاسيما فيما يتصل بالحدث السوري خاصة مع مواصلة الجيش العربي السوري تعزيز مواقعه في الشمال العربي السوري أيضاً، ومع الزيارة الطارئة لوزير الخارجية د. فيصل المقداد في زمان ومكان عقد القمة، ما يعطي أبعاداً أخرى لما سيجري من تداعيات قد لا تتضح حتى بعد القمة الثلاثية، وذلك لأسباب عديدة قد لا يحسم أمرها في زمن انعقاد القمة، ومن بعض هذه الأسباب ما يتصل بحديث -درس- الإمام الخامنئي لأردوغان: (فلسطين هي القضية الأولى للعالم الإسلامي وليس العلاقات مع الكيان الصهيوني وأمريكا – أي هجوم على سورية سيضر سورية وتركيا والمنطقة برمتها وسيعود بالنفع على الإرهابيين)، وهناك أسباب أخرى تتصل بتناقض مشاركة أردوغان في هذه القمة وقمم أخرى مناهضة لها، ما يصعّب الأمر عليه نفسه إذ يجعله ضائعاً في البحث عن المكان الذي يجب أن يضع نفسه فيه بصدق ورجولة ووضوح، كما يجعله أسيراً مستداماً لأحلام مضطربة وغير واقعية.
إن الغرب الجيوسياسي اليوم الذي طالما عمل على تصعيد التوتر الإقليمي والدولي، لم ولن يعود قادراً على تحمّل نتيجة أعماله تلك، ولا على الاستمرار في دفع ضريبتها، فخصومه صاروا أكثر منعة وخبرة و(مقاومة) لسياسات العقوبات والحصار والهيمنة وأحادية القطب التي تتضعضع اليوم وتعود وبالاً عليه وعلى ذيوله بالدرجة الأولى، ومن هذا القبيل كان حذر أطراف قمة جدة في أن يكونوا حلفاء لأمريكا وحدها وهم ينظرون إلى مصير حلفائها في الغرب اليوم.
فالمهم في قمة طهران أن يتعظ أردوغان ويرعوي، والمرجو ألا يكون هذا أملاً بعيد المنال.