خصخصة البحر!
إذا أراد رب أسرة موظف، من الطبقة الفقيرة-باعتبار أن معالم الطبقة الوسطى لم تعد واضحة- يسكن بالصدفة المحضة في أحد أحياء الساحل السوري المطلة على البحر أو القريبة منه، أن يأخذ أسرته في يوم عطلة إلى البحر، كما اعتاد أبيه أن يفعل في الماضي، للتخفيف من وطأة هذا الحر، المنسكب من قدور الجحيم، فعدا عن كونه لن يجد ولو أشبارا قليلة من رمال شاطئه الذهبية، يتخذها ملاذه وأسرته، يمضون فيها فترة ما بعد الظهر وحتى العشاء، وهم “يبطبطون” بالماء من حين لآخر “للبوردة” وبين الغطسة والثانية، يرتاحون قليلا وهم يأكلون بطيخة حمراء، عدا عن ذلك فإنه لن يستطع أن يرى الشاطئ والبحر، إلا شذرا، أو من فوق “الاساطيح” بعد أن غزت الفنادق والمقاهي والمطاعم الواجهات البحرية، وأغلقت الشواطئ في وجه الناس، إلا من لديه القدرة منهم على الدفع وبسخاء أيضا، ليتمتع بما منحته الطبيعة للجميع ومجانا!
بالتأكيد يوجد العديد من الأماكن الشعبية على الشاطئ، إلا أن هذه أيضا احتلت طاولات بلاستيكية مرتجلة، معظم مساحتها، وتؤجر للرواد بالكرسي وبالساعة! يعني إذا فرضنا أن أسرة الموظف “ماغيرو” مؤلفة من 5 أشخاص، وأراد أن يمضي معها عدة ساعات على البحر، فعليه أن يدفع أجرة المكان المخصص له أساسا! وبأسعار مرتفعة تجعله لا يفكر بإعادة الكرة!
البحر المعروف بكونه “أبو الفقراء”، البحر ملهم الشعراء، والذي قال فيه نزار قباني: “هكذا خلقني الله/ رَجُلاً على صورة بحر/ْبحراً على صورة رجُل/كلَّما شمَّ البحرُ رائحةَ جسمكِ الحليبي/صَهَلَ كحصانٍ أزرق وشاركتُهُ الصهيل”، البحر صديق الوحيد ونديم الساهر، رفيق ضحكات الأطفال ومصدر فرح لا ينتهي لهم، هذا البحر، صار غريبا على الفقراء، لا قدرة لديهم على ارتياده وجعله من مؤنسي أوقاتهم، يمرون من جانبه وكأنه غير موجود، ينظرون إليه أو إلى ما يظهر منه، من خلال زجاج عنصري يعزلهم عنه، وما من شيء يفعلوه إلا التحسر، بعد أن “تخصخص” بشكل أو بآخر، وأصبح من الأحلام المؤجلة، مثله مثل الكثير من الأشياء، التي صارت ببركة “الخصخصة” محرمة على الفقراء إلا ما رحم ربي!
فيا أيها الساقي، إليك المشتكى.
تمّام بركات