ثقافة وفن

عن التماثيل النائمة في سرير النسيان!

العابر في زمن مضى، من ساحة الأمويين مرورا بالمعهد العالي للفنون المسرحية ومدينة المعارض القديمة، وصولا إلى جسر الرئيس كان يتشاغل عن الجفاف المحزن لمجرى بردى هناك، بمجموعة من التماثيل الفنية التي انتصبت ببهاء في المكان، وثمة شعور بهي يكتنفه وكأنه في حضرة مرمرية للجمال، خصوصا مع رائق الجو العليل والرفيق أو الخليل، وعلى ذكر تلك التماثيل التي اختفت الآن من هناك منذ زمن طويل، وبعضها مازال مختبئا بخجل في حديقة ما، تماثيل ومنحوتات فنية متنوعة المدارس والأفكار، اذكر بحكم دراستي بالقرب من المكان، كم اشتغل طلاب كلية الفنون الجميلة عليها وكم فرحوا بوضع أعمالهم بمعرض في الهواء الطلق، ليراه الجميع، ولتتحسن الذائقة البصرية أيضا للجمهور غير المعتاد بشكل عام الذهاب إلى المعارض الفنية إلا المهتمين منهم والمجاملين، لذا كانت الفكرة أن يخرج الفن إلى الناس، وهذا ما حدث، كانوا ورشة عمل لا تعرف الراحة والكلل، شباب وصبايا يفرحون القلوب، يحملون أزاميلا وعدة نحت وحفر والكثير من الفرح، ويشتغلون تحت الشمس والمطر بذات الهمة والروح، حتى أنجزوا أشغال قلوبهم، نظروا إليها نظرة الرفيق للرفيق، عانقوها وتركوها آمنة على كتف بردى الحزين، لكن معرضهم الذي حاكته أرواحهم أولا قبل أيديهم، تمت إزالة مقتنياته من منحوتات بديعة لامرأة تجلس وتنظر باتجاه قاسيون وكأنه بعلها الإلهي، أو تلك اليد التي كانت تبدو وكأنها ممدودة لتصافح، هكذا وبطرفة عين تحول نهارا عاديا كغيره من الأيام، إلى نهار غير عادي، حولّه كره الفرح و الرحابة السماوية، إلى يوم حزن ودموع سواء عند الفنانين الذين اشتغلوا تلك الأعمال، أو من الناس الذين حزنوا أيضا لإزالة هذه التماثيل، التي عوملت وقتها وكأنها أوثان! حينها لم يكن النفس السلفي “الإقصائي” المقيت في البلاد، قد أعلن عن موقفه جهارة، لكن الارتباطات االظلامية، ذات الأجندات التكفيرية والتخريبية للعقل والجمال، سواء مع جهات إقليمية أو عالمية، والتي لم تعد خافية على أحد نواياها بعد أن صارت تلك النوايا كوابيسا، أظهرت عن أول أوجهها المتعددة الطبقات حسب الزمان، عندما تم الاحتجاج من بعض النواب “السوريين”، الذين وللمصادفة هم من رموز ديمقراطية الدم الآن!، أدى إلى إزالة تلك التماثيل وتم نفيها وتشتيت شملها، التماثيل نفسها كانت تبدو حزينة حيث هي، بعد أن تعودت استنشاق الهواء الطلق والسلام الودود على المارة، أو الجمهور الدائم والمستمر لذاك المعرض.
يقول “ابن عربي” المولود في مرسيا، إسبانيا عام 1165، والمتوفي في دمشق عام 1240: “المدن بأهلها ” وهي كذلك، المدن بأهلها وناسها، وبما يبدعون ويحبون، وإن ذهبوا ذهبت المدن، فليعاد لتلك الأعمال الفنية اعتبارها، وليرجع ذلك المعرض الدائم في الهواء الطلق، للجمهور الذي لا تترك له مشاغل الحياة فرصة لزيارة المعارض الفنية، وتأمل ما يملأ الروح بالدهشة والسؤال والمتعة.
تمّام بركات