مرجعية التعبير
تشكّل الحالة الكوميدية ظاهرة ذات قيمة جمالية، إلا أنّ بعضهم يراها شكلية بهدف التنفيس، و تتناقض مع منطق تطوّر الحياة بحجّة أنّ التناقض بين الشكل والمضمون يحدّ من طموح الإنسان للوصول إلى مكانة ما في المجتمع.
ولا نعتقد أنّ ممارسي العمل الكوميدي من كتاب ساخرين وممثلين ورسامي كاريكاتور، يبحثون عن قشور الحياة وإغفال لبّها كما يدّعي بعض المتابعين، فالعكس هو الصحيح، فنجاح هؤلاء يكمن في حسّ الدعابة الذي يميزهم من غيرهم ، ويشكل مع سوسيولوجيتهم ثنائية تحجز لهم حيزاَ هاماً ومكانة مرموقة في المجتمع.
وقد تختلف نسب النجاح من شخص إلى آخر، وفقاً لمسارات الرؤية واندماجها مع تفاصيل الحياة، وحسن التعامل مع مفردات الواقع.
وأمست نصوص بعض الكتاب الساخرين أكثر رسوخاً بالواقع والتصاقاً بالتعامل مع الحياة وسبر أغوارها، فتحلق بنا في أغلب الأحيان في فضاءات الحرية وتفتح لنا آفاقاً جديدة من الوعي والإدراك واختزال الوقائع بصدق وعفوية.
وقد تلتقي أفكار الكاريكاتوريين مع الكتاب الساخرين في تلقّف المشاهد وتجسيدها كل بطريقته.
كنت قد رسمت منذ سنوات عدة لوحة تمثل جنازة، وقد وضعت” لوغوات” بعض الشركات الراعية على التابوت ، وكتبت عليه: هذه الجنازة برعاية…..، تعبيراً عمّا وصلت الحالة إليه.
بينما بمفارقة أكثر توصيفاً للحالة، يأخذنا الكاتب الساخر عبد الكريم أبازيد في كتابه (شرّ البلية)، لشرح الحالة نفسها، فتحت عنوان : “جنازة في ظلّ العولمة”، تحدث فيها عن السيد جاكسون العاطل عن العمل، الذي رحل ولم يكن لدى أسرته ما يكفي لتكاليف الجنازة. فاقترحت على زوجته شركة متعددة الجنسيات تنتج سلعاً، من الموبيليا حتّى التوابيت الفاخرة المريحة، أن تتكفل بجميع تكاليف الجنازة. وظهرت في اليوم التالي هذه النعوة في عدة صحف:” انتقل إلى رحمة الله المستر جاكسون من مدينة شيكاغو متمماً جميع واجباته.. وسينقل جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير في تابوت فاخر مريح من صنع شركتنا”…….” للأخشاب التي يقع مقرها الرئيسي في شارع”……” ، ولشركتنا فروع عدة في …..، وتنتج إلى جانب التوابيت مختلف أنواع الموبيليا، التي ترضي جميع الأذواق وتتناسب مع مختلف الشرائح الاجتماعية، ونبيع نقداً وتقسيطاً … إلخ.
وهنا، لا بدّ للقارئ أن يتلمّس مرجعية التعبير عن الحالات الساخرة الفكاهية والمضامين الإنسانية التي تشكّل رؤية منطقية وقيمة جمالية تواكب مفاهيم الحياة بتلازم الشكل والمضمون وعدم إغفال أحدهما للآخر.
فالرؤية الحقيقية الواقعية للطبيعة تمتزج مع ذاتية الإنسان، من خلال قراءات تختلف من شخص إلى آخر. وتختلف أيضاً مسألة التكوين التي تتجسد بخلق سردٍ إبداعي يضاف إلى القراءة الأولى.
للصورة وللمشاهد دلالات ورؤى خاصة، وتأتي أهميتها من خلال توظيفها وإيجاد فكرة خلاقة، ومشاركة الآخر أي – المتلقي- ووضعه في دائرة الدهشة والأفق المفتوح.
وعلى حد تعبير أرسطو” إنّ التفكير مستحيل من دون صور”، تأخذنا المشاهد في أغلب الأحيان، إلى أبعد ما يمكن تصوره. فالصورة تلعب دوراً هاماً وأساسياً في مسألة التكوين الفكري، لا بل تحولت إلى ثقافة حقيقية ترتبط بالأحداث والمتغيرات والشخصيات والطبيعة. وتجسّد تلك المفردات حالات تأملية في صيغة بعيدة عن التجريد، وأبعاد جمالية أخاذة تتوحد برؤية ذاتية.
وما الصورة سوى انعكاس حقيقي لمتطلبات عامة ورؤى خاصة كما أسلفنا سابقاً، تؤثر على نحو أو آخر بآلية تفكير الإنسان ووعيه و ثقافته.
عندما أطلق إدوارد مونش لوحة ” الصرخة”، أراد للأحاسيس المكنونة الداخلية أن تتدفق مشحونة بعواطف صادقة. فمنذ عام 1893- وهو يوم ولادة اللوحة-إلى يومنا هذا وما بعده، تبقى الصرخة ملازمة لنا و ممزوجة بحالات من القلق والخوف، وقد استخدمت تلك الصورة في مئات الملصقات والكتب ولوحات الكاريكاتور.
فكل ما يتراءى لنا وما نتلقفه من مشاهد وما يحيط بنا، يشكل وعياً جمالياً ورافداً أساسياً للمخزون الثقافي الذي يساهم في نبش خبايا الحياة بكل تفاصيلها ويشكل قاعدةً صلبة نرتكز عليها في التعبير عن مفردات عملنا.
رائد خليل