“مفيد الوحش” الشخصية الأكمل في الرواية السورية
عندما همّ مفيد الوحش بالهجوم على دورية لجنود الدرك الفرنسي، لم يكن لحظتها مدفوعا بأسباب أيديلوجية، بل لم يكن مدفوعا بأية أسباب أخرى، إلا تلك التي جعلتها الطبيعة فيه، الطبيعة التي انتخبته بطلا بمواصفات بطولة مثالية، فالانتصار للمظلوم بشكل فطري، ليس سلوكا طارئا في شخصية البطل، بل هو من مكوناتها، ومن محددات سلوكه العام أيضا، ذاك أن القيّم العظمى: الحق، الخير، الجمال، تفرض على من يحملها بوجدانه ودمه، سلوكا شخصيا يجاريها، ولا يكون في حال من الأحوال، وفي مطلق الأحوال أيضا، ضدها، فشهامة مفيد الوحش التي تجعله يهجم على من يتطاول على امرأة، لن تسمح له أن يقوم ب: “تلطيش” النساء، أو أن يقوم بمغازلة المرأة التي ساعدها في التخلص من “زعران” الشارع، ونزعته المتوثبة لإغاثة محتاج، تمنعه من سرقة فقير، وهذا حتما يوصله لعدم قبوله الخيانة بكافة أشكالها مهما قست الظروف وتعاظمت الخطوب.
تمثل شخصية مفيد الوحش في رائعة حنا مينا “نهاية رجل شجاع” النموذج الأهم لشخصية البطل في الرواية السورية-مع عدم ادعائي الاطلاع عليها كلها- فما فيه من صفات بطولية، هي من طبيعته الشخصية، وليست نتيجة الظروف، التي يجب أن تؤثر في دواخل الشخصية، وتحرك كوامن القوة فيها، لا أن تخلقها، رغم أن الظروف تُنضجها، وتصقل خبرتها، وهذا ما جعله الكاتب الكبير “حنا مينه” -1924-2018- نموذجا حيا من لحم ودم، عندما راح يرسم عوالم شخصية “مفيد” تلك الداخلية والخارجية، “فالوحش” من أبناء قرية فقيرة وبعيدة في الجبال، متمرد على كل ما حوله، وصاحب شخصية قوية، صلبة، متحدية، حنونة، محبة، سنجده وحشا حقيقيا وهو يقوم بضرب رجال “البطحيش” وقبلها وهو يحيا في الكهوف وينام بين الوحوش في البرية، لكننا سنجده أيضا عاشقا رقيقا، وصديقا صدوقا، ربت فيه طبيعة المكان الذي نشأ فيه، بما فيها من متناقضات صارخة الجمال، نزوعا فطريا نحو البطولة، والتي جاءت هنا “بطولة شعبية” واندفاعا جارفا لإعلاء القيم الثلاث الكبرى، حتى دون أن يعرفها، وهذا كان من الأمور التي اشتغل على تأكيدها بأسلوب بارع، وبلغة روائية رفيعة، صاحب “المصابيح الزرق” فكان أن خلق شخصية رائعة وبأبعاد محلية وشعبية جدا، لكن سلوكها وأهدافها وحتى عواطفها، سامية، نبيلة، قادرة بما لديها من ملكات إنسانية كبيرة، أن تغيير حتى مشاعر بائعة الهوى “لبيبة” التي أحبها بصدق، فأحبته بوفاء منقطع النظير.
والواقع أن أعمال الروائي الراحل مينة، عموما و”نهاية رجل شجاع” بشكل خاص، تشتغل على مزج الواقع بالرمز والأسطورة، والذاتي بالموضوعي، والفطري بالعقلاني، وتتميز، أيضاً، بكونها متوازنة في طرحها قضايا المسحوقين والمهمشين والفقراء، فرواياته لا توغل في التجريد، فتغترب عن الواقع، ولا توغل في التسجيلية، فتفتقد إخلاصها للفن الروائي، ولا تنحاز إلى المذهب السياسي على حساب الاتجاه الفني، كما يتميز أسلوبه بلغة تجمع بين الرشاقة والقوة والشاعرية، وهذا ما جعل من شخصية “مفيد الوحش” الشخصية الكاملة، بطل شعبي بمفردات محلية جدا، لا لهجة تدل على انتماءه “الأنثروبولوجي”، ولا أي شيء غيرها، مما يستخدمه “الكُتّاب الصغار” لهذا الشأن، لا تناقض بين سلوكها ومكنوناتها النفسية، لا تناقض بين أحاديثها ومزاجها العام والشخصي، ما من “أوفرة” في طرح لأبعادها وعلى مختلف الصعد، فالبطل ليس شاعرا مثلا، كما أنه لا ينشد الأمجاد الشخصية ولا يتكسب من السياسة، لكنه إنسان بسيط، تعاظمت حوله الخطوب، فاستنهضت ما بدواخله من مفردات البطولة، التي “تعملق” إزاءها وواجه قدره مواجهة الند للند، حتى أنه غلبه، عندما قرر أن تكون نهايته، نهاية تراجيدية، محزنة، ولعل الحديث التالي، يوضح بشكل حاسم طبيعة الشخصية: “وغدًا، حين أموت، أموت مرتاحًا، لأنني كنت شجاعًا. المرض يقضي عليّ. قضى عليّ وانتهى الأمر. لم يبق مني شيء، ولا آسف. على شيء. لكنّ مخلوقًا في هذا الوجود لا يمكن أن ينكر أنني كنت شجاعًا، وسأبقى شجاعًا، أنظر في عيني الموت ولا أخاف”.
ومن أقوال “مفيد الوحش” في الرواية، نقتبس ما يدل على طبيعة هذه الشخصية ونوازعها:
“لو كنت عاقلًا لكان عليّ أن أعمل بنصيحة الطبيب. لكنني لست عاقلًا، ولست مطيعًا، ولا أريد العيش درويشًا. أنا مفيد الوحش! أنا الذي أكلت الحياة، ولن أترك الحياة تتركني. هي وأنا، الحياة وأنا، وسنرى من منا الأقوى”.
أعرفُ أنني أسبح -كما هي عادتي-ضدَّ الموج، سبحتُ كلّ حياتي ضدَّ الموج، ولا فائدة من الكلام أو النصائح”.
“هذا هو عمري: طويل قصير، سريع بطيء، في أيام الحرِّيَّة كان سريعًا، وفي أيام السجن كان بطيئًا، أنا الآن حر”.
لا بد من لفت انتباه القارئ إلى وجود العديد من الفروق بين رواية “نهاية رجل شجاع” وبين مسلسل “نهاية رجل شجاع” المأخوذ عنها، منها مثلا مهنة “لبيبة” وهذا أمر مفهوم نوعا ما، لدى تحويل عمل روائي إلى درامي-تلفزيوني-ولكل من لم يقرأ الرواية بعد، معتمدا على ما شاهده في المسلسل، اقرأ الرواية، ولن تندم!
تمّام بركات