أنا وأمير الأحزان
صوت صافرات سيارة إطفاء، يقطع الصمت البهيمي الذي يحتل المكان في غياب الكهرباء، تبتعد السيارة ويتلاشى صوت صافرتها، تدريجيا، حتى لا يبقى منه إلا الصدى العالق في مجرى السمع.
عما قليل صوت موسيقى أليفة يصل إلى مسامعي، تعبر الزمان والمكان، ستجعلني أشرد وأسافر بالزمن إلى المرة الأخيرة، التي استمعت فيها إلى أغنية “حكاية كل عاشق”.
كنت حينها في صف البكالوريا، أحيا فترة التحضير للفحص، على إيقاع خيبة عاطفية مربكة، وكان المغني “هاني شاكر” البطل الكلى الحضور في تلك الأوقات الصعبة، ليس عندي فقط، بل عند أجيال من العشاق، جمعهم حب جلد الذات حتى الثمالة، وهذا بالضبط ما كانت تمنحه وبلا حدود أغاني هاني شاكر، جلد الذات والاستمتاع بالعذاب السادي للمشاعر المكسورة التي يحرك ركودها.
عندما توفي عبد الحليم عام 1977، وكان حينها المتربع على عرش الغناء العربي، أودى الحزن عليه بحياة أشخاص أحبوه بجنون، منهم جارة بيت جدي لأمي، التي تجرعت الزرنيخ بعد سماعها بالخبر، وصديقتها التي نجت من فعلتها بالقفز عن الشرفة، بكسور مختلفة في مختلف أنحاء جسدها، كانت خالتي، التي بقيت وقتا طويلا في نوبة حداد على العندليب الأسمر، حينها بدأت وسائل الإعلام في ذاك الزمن، بتقديم هاني شاكر، على أنه خليفة عبد الحليم في الغناء الرومانسي، العاطفي، وفعلا، صار المطرب الذي اكتسحت مبيعات ألبوماته الغنائية، معظم المغنين في ذلك الزمن، إلا أن ميزة أو مشكلة “هاني الشاكر” الفعلية، تكمن في كونه المغني الذي صار صلة الوصل بين جيلين مختلفين جدا في الغناء العربي، الجيل الكلاسيكي “أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم، فريد الأطرش، وغيرهم، وجيل الأغنية “الشبابية” عمرو دياب، مصطفى قمر، وغيرهم، ولا بد هنا من القول بأن مصطلح “الشبابية” مصطلح غير مفهوم أو ملتبس، بدليل أن محمد عبدالوهاب كان يعتبر في بداياته التجديدية مطرباً للشباب، كما أن عبدالحليم حافظ ما زال حتى الآن يحمل لقب مطرب الشباب، وهذا الالتباس في الهوية الفنية والنوعية والزمنية أيضا، كان الشرك الذي وقع فيه “أمير الغناء العربي، فهو لم يعرف أن يستمر في اللون الغنائي الكلاسيكي، الذي أحبه الجمهور فيه، كما أنه لم يعرف أن يجاري موجة “الغناء الشبابي” والأغنية الشبابية التي جاءت صاخبة، إيقاعية، رتمها سريع، فعلق من ذلك الزمان في هذه المتاهة ولم يقدر على الخروج منها، حتى اليوم!
جاءت الكهرباء، وشاشة الجوال لمعت بعد انطفاء طويل، بدأت بتقليب الصفحات الزرقاء، وكان أكثر ما تداولته يومها، خبر وصول الفنان هاني شاكر إلى دمشق، والخبر مرفق بصور وبفيديو أيضا، في المشهد نقيب الفنانين محسن غازي، والفنان هادي بقدونس، والموسيقي أندريه معلولي، وهناك شاب “ثلاثيني” بينهم، في مركز النظر تماما، ملامحه ليست بالغريبة، لكن من هذا؟ وأين الفنان هاني شاكر؟ ليتبين لاحقا أن الشاب الثلاثيني المحتفى به، هو الفنان الذي استمعت إليه وأنا مراهق، وها أنا وقد شابت لحيتي، واشتعل الرأس مني، أنظر إليه كما لو أنه من رواد الأغنية “الدبل” شبابية، التي يبدو أن نجمها سيبدأ بالصعود قريبا، أما عن ملامحها؟ فهذا حديث طويل، ما من متسع له هنا، خصوصا مع خيبتي الظاهرة، من الكيفية التي يمر بها الزمن عل الناس، هذا الفنان هاني شاكر مثلا، وقف الزمان عنده في الثمانينيات، ولمّا يزل على وقفته!
تمّام بركات