سان جون بيرس: الشبح المقيم في بيوت قصائده
إن كان من شاعر عالمي، لم تنتظم إصداراته الشعرية خلال حياته، بل بقيت تواريخ نشرها مضطربة ومتباعدة، رغم شهرته الأدبية الفائقة، قهو الشاعر الفرنسي سان جون بيرس، -1887-1975-الشاعر الغامض أو الشبح كما كان يوصف في الأوساط الأدبية الغربية، بل إن فوضى الجغرافيا التي عاشها كدبلوماسي، انعكست بطبيعة الحال على طبيعة نتاجه الأدبي، تنوعه، غزارته، رسالته، دلالاته، أبعاده ومراميه، وهذا ما تبينه تواريخ نشر أعماله، فعمله الشعري الأول “مدائح” صدر عام 1911 باسمه الحقيقي ” ألكسي سان ليجي ليجي” ليصمت بعدها حتى عام 1924، حين أصدر كتابه الشعري الثاني “صداقة الأمير” بتوقيع سان جون بيرس -اللقب الذي قدم نفسه للقراء من خلاله طوال حياته الأدبية، ثم أصدر في العام نفسه، قصيدته الشهيرة “آناباز” التي كرسته شاعرا عالميا، بعدها سيعود لعزلته وصمته لمدة ثمانية عشر سنة، ثم يصدر قصيدته “منفى” التي نشرها وبالتوازي في ثلاث مدن “كوسموبوليتية” شيكاغو/ وبوينس إيريس/ مرسيليا- وبعدها وفي عام 1943 نشر “قصائد إلى الغريبة” 1943؛ ثم “أمطار” في نفس العام، وبعدها بعام قصيدة “ثلوج” وبعد سنتين قام بنشر “رياح” حتى عام 1953 عندما قام بجمع كل هذه القصائد في كتاب واحد حمل عنوان “الأعمال الشعرية”
بيرس الذي تحل اليوم ذكرى وفاته، لم يكن شاعرا متطبعا بما تطبع به غيره من شعراء فرنسا، فالعزلة التي ضربها حول نفسه في الأوساط الأدبية والثقافية والفنية، مقتصرا على صديقه الشاعر “بول كلوديل” والكاتب “فكتور سيغالين”، ساعدته في الابتعاد عن التأثيرات العنيفة والمباشرة، لكل من التيار “الدادئي” والتيار “السريالي” وسطوتهما الكبيرة في فرنسا مطلع القرن العشرين، كما أنه ابتعد عن ما عرف حينها بـ: “الشعر النضالي الملتزم” وهذا ما أعطى لقصائده بعدا إيحائيا مختلفا عن غيره من شعراء أوروبا، لتجيء قصائده مميزة بغنائية وبملحمية، فريدة بين معاصريه، مليئة بصياغات قوية وغامضة، تجعل من يقرأه يظن أنه يقرأ لشاعر أو خطيب روماني قديم، وهو ما قصده الشاعر “آلان بوسكييه” وهو كاتب سيرة بيرس، بوصفه تلك القصائد بكونها: “خطاب صيغ ليلقى على جمهرة من الأمراء”، ومن تلك القصائد نختار بعض من مقاطع “أغنية”: توقفَ حصاني تحتَ شجرةٍ مليئةٍ باليمام/أُطلقُ صفيراً واضحاً للغاية/لا يحمل من وعودٍ لضفافها/سوى ما تحمِلهُ هذهِ الأنهار/أوراق حية في الصباح على صورة المجد/ ليسَ بالإنسان من لا يكونُ حزيناً/لكن ينهض قبل الفجرِ، وبحذر يبدأ في المتاجرة بشجرةٍ قديمةٍ/مسنداً ذقنهُ على آخر نجمةٍ/يرى في عمقِ السماءِ أشياءَ عظيمةً نقيةً/عن السرورِ تدور.
تقنيا، يستعيض بيرس عن البيت الشعري بالمقطع الشعري، مثل استبداله بحور الشعر الفرنسي التقليدية، مثل “السكندري” بإيقاعاته الأثن عشرية، بإيقاعات متتالية، إيقاعات قد تتجاوز في طولها البيت التقليدي وقد تقصر عنه، لكنها تقدم وفي كل الحالات إيقاعه الخاص، وموسيقاه الخاصة، كما في المقطع التالي من شعره: ” أيّها الحبُّ آه يا حبّي، لا نهائيّا كان اللّيل، ولا نهائيا كان سهرنا/ليل الصّيف يستضيء في خصاص شبابيكنا المغلقة/ والعنب الأسود يزرقّ في الأرياف/ ونبات الكَبر على حوافّ الطرق/ يُظهر لحمه الوردي/ وشذى النّهار يستيقظ في أشجاركم العالية.
ترجم الشاعر السوري “أدونيس” معظم أعمال سان جون بيرس الشعرية-الفائز بنوبل للأدب 1960-وقدمها للقارئ العربي بلغة أقرب إلى الغنائية العربية منها إلى الفرنسية، بعد أن قام بتبسيط الدلالات والإيحاءات الشعرية، لتتناسب مع كثافة الصور في قصيدته، مع محاولة التخفيف من غزارة السبك اللغوي المتلاحق، والمتراص، الذي غلف معظم قصائد بيرس، ورغم العديد من الانتقادات التي طالت هذه الترجمات، إلا أنها لا تزال الترجمات شبه الوحيدة، المعتمدة عالميا لقصائد سان جون بيرس، ومن “ضيقة هي المراكب” التي ترجمها أدونيس، نورد ما يلي:
ضيقة هي المراكب
أيها الأحباء/ أيها الآتون بعد الأوان/ بين الرخام والبرونز/ في تطاول نيران المساء الأولى/ أيها الأحباء/ يا من ران عليكم الصمت وسط الجموع الغريبة/ ستشهدون كذلك هذا المساء لمجد البحر: ضيقة هي المراكب ضيق سريرنا/لا حدّ لامتداد المياه، وأكثر اتّساعا مملكتنا
ذات الغرف الشهويّة المغلقة/ليدخل الصيف الآتي من البحر/ للبحر وحده سنقول: كم كنا غرباء في أعياد المدينة.
تمّام بركات