“غيوم داكنة” مشهدية الصمت السوريالي والموسيقا والجنون
حلب – غالية خوجة
كيف أخرج الفنان أيمن زيدان فيلمه “غيوم داكنة ـ إنتاج المؤسسة العامة للسينما” الذي شاهدناه في صالة المركز الثقافي بالعزيزية بحلب؟ وما الرسالة الإنسانية التي يرغب بإيصالها للعالم، خصوصاً، وأن الفيلم مترجم إلى اللغة الإنكليزية، وسبق وفاز بجائزة القدس للإنجاز الفني – مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط بدورته 36 وبجائزة المهرجان اللبناني للسينما والتلفزيون بدورته 11؟
الموسيقا والجنون
ينطلق الفيلم من مشهد تصويري يرافقه صوت الراوية باللغة العربية الفصحى، لتتضح بهدوء معالم المكان المدمر كجزء من وطننا بين مدينة وقرية وصمت وغيم داكن ودقات ساعة، ليلفتنا صوت خارجي يتسرب من النافذة بلهجة عامية يلعن فيها العتمة ويتحدى الظلاميين أن يطلقوا الرصاص عليه دون غدر، ليكتشف المتلقي أنه دخل إلى اللهجة المحلية مع صوت صفوان ـ محمد حداقي المدرس الذي أصيب بالجنون نتيجة فقدانه لبيته وعائلته ورفاقه، ويبدو من الأحداث المتلاحقة أن هذه الشخصية هي البطلة الرئيسة العاكسة لأعمق آثار الحرب بطريقة “تراجيكوميدية” هادفة، تجعلنا نضحك من شدة الألم والموت والدمار، لكنها تصرّ على التحدي والانتصار الذي يكمله حضور الطفل نور – ديفيد الراعي بدور ابن العسكري الرامز لمستقبل طالع من بين الأنقاض، والذي يصل لمنطقة صفوان بعدما اتجهت طائرته الورقية مع الريح وهو يلحق بها، فيأمره المجنون صفوان بالمحاربة إلى جانب جنوده الافتراضيين الذين صنعهم الواقع في مخيلته، ليصنعهم من مخيلته كواقع، لا سيما فزاعة الحقول التي يضربها مردداً: “تعرف بلدك يتدمر، خائن، كيف الواحد يبيع أهله؟! لا تهاون مع الخونة في قوانين الحرب”.
ويعكس هذا المشهد الفني سوريالية مفاهيمية ملفتة تضم الطفل إليها إلى أن تجده أمه لمى بدور، بعد بحثها مع جده ـ رامز عطا الله عنه وهما خائفان من اختطافه.
ويتابع صفوان جنونه الواعي كمدرس يوزع العلامات على الطلاب وكقائد كتيبة تنتصر على الأعداء، بينما تظهر الموسيقا التصويرية للفنان سمير كويفاتي كشخصية بطلة بتجريديتها وتناغمها مع المشاهد المختلفة من دمار وصمت وحالات نفسية واجتماعية وكأنها تحكي حكايات المجتمع بكافة تفاصيله وأبعاده وكانت المرايا العاكسة لمجمل فيلم “غيوم داكنة”، خصوصاً مع اندماجها داخل المشاهد الصامتة التي أبدعت نبضات المخرج في نقلها كلوحات لا يجوز أن تكون أطول أو أقصر من الزمن الذي عرضت فيه، تماماً كما شخصية صفوان التي مثّلت المعاناة العميقة لكل مواطن سوري، ولكل إنسان عانى من ويلات الحرب.
الصمت حكاية مشهدية خفية
وبين لحظات وصول الطبيب المريض بالسرطان إلى البيت الذي سكنته عائلة العسكري، نلاحظ كيف تمتزج ذكريات الجدران بحنين الشخصية في مشهدية جمالية تتسرب من خلال تعدد أصوات الرواة التي يتخللها صوت الصمت كراوٍ خفي، بينما عدسة المخرج زيدان الذي كتب الفيلم أيضاً بالشراكة مع ياسمين أبو فخر، تعرّج على ما وراء الجدران وهي تدخل لأعماق الشخوص، وتجذبنا بتقنية تناسُل حكاية من حكاية لتكشف لنا تدريجياً، وأحياناً ببطء شديد، عن الشخصيات وظروفها وذاكراتها ومعاناتها من الحرب وجوانبها الوجدانية، بين الإخلاص والوفاء، والانحراف والدخول في علاقات محرمة.
تعددت الأصوات والعدسة واحدة
وهكذا، بين مقطع وآخر، تتردد المخاوف بين القتل والخطف والسرقة والبحث عن طريق للخلاص لدرجة أن المكان فرغ من ساكنيه، إلاّ من أبطال الفيلم، ولكل منهم حكايته بين مصاب بالشلل محسن ـ محمد زرور بعد إصابته برصاصة بينما زوجته – لينا حوارنة التي حماها ما زالت وفية لتلك اللحظة، لكنها تفاجأ بأن الطبيب أحمد هو من كانت تحبه ويحبها سابقاً ويأتي لمعالجة زوجها المشلول، والذي كشف لنا من خلال عودته كل هذه التفاصيل التي بدأت منذ وصوله مع استغراب سائق الأجرة ـ مازن عباس من عودته لأنه ما من أحد غادر ورجع، ليقول الطبيب: “ليس دائماً الإنسان يرجع للمكان الذي يحب أن يعيش فيه، بل يرجع للمكان الذي يحب أن يموت فيه”.
وبعينيّ العائد إلى وطنه، يرى المتلقي مع المخرج كيف تخوض الشخصيات واقعيتها المتناقضة بين ظرفين، أولهما الفساد العاطفي والمادي والأخلاقي بحثاً عن الخلاص مثل السائق المهرب – علاء قاسم وأخت المشلول وأخت المجنون ـ نور علي التي سرقت أخاها النشلول لتهرب مع المهرب بعدما حملت منه بشكل لا شرعي، وثانيهما الوفاء والتشبث حتى في حالة الجنون، فتتحدى، وتنتصر، وتكافح لتستمر في حياتها داخل الوطن بإعادة إعمار بيتها أو العودة إلى محافظتها أو البحث عن طريقة إعادة صياغة الحياة وكأنها تردد ما قالته إحدى شخصيات الفيلم:”صرنا نعفّش ساعة البسط تعفيش”.
الصمت
ويختتم الفيلم حكاياته كما بدأها بالصمت التصويري الذي يطوي مشاهده الأخيرة التي يموت فيها الزوج المشلول، لتعود لزوجته عاطفتها مع الطبيب العائد من فرنسا، والذي يموت أيضاً أمام الطفل نور، بينما تتزوج زوجة العسكري عم ابنها نور، ليتبين أن زوجها ـ جود سعيد لم يستشهد، بل عاد جريحاً إلى عائلته في مشهد مفاجئ يخيم عليه ما يعلنه الصمت بجمالية مؤلمة تتفرع إلى عودة مثنوية، فخاتمتها تعيد الشهيد، وبدايتها تعيد المغترب الطبيب المريض، كما أن إيقاعها البصري يتوزع إلى إيقاعين متسارع ومتباطئ، وكأن هذه المثنوية خلفية لانفصام الذات بين الواقع والوهم مما يعلن عن حرب سينمائية نفسية.
لو غابت المباشرة
ماذا لو شاهدنا الفيلم بمخيلتنا مستغنين عن تجسيد الحالات المحسوسة المباشرة مراعين حضور العائلات؟ ولو حذفنا الألفاظ والمسبات التي نسمعها في الشوارع، إضافة لتفاصيل التفاصيل وسردها البصري البطيء، واختزلنا وقت بعض المشاهد تاركين المشاهد ذات الإيقاع السريع العميق؟.