باميلا بول.. عن “بيئة العمل” والعودة إليها

ركزت الفلسفة الاجتماعية في أحد توجهاتها البحثية، ومنذ صعود نجم الثورة الصناعية في أوروبا، -وما نتج عنها من وفرة اقتصادية غير مسبوقة-، بشكل منهجي ومكثف، على العمل، وعلاقة الإنسان به، ليس من جهة أنه مصدر دخله فقط، بل من حيث إنه العمود الأساس الذي تصبح حياة المرء، منجذبة بمعظمها، وفي جانبها الخاص أيضاً، إلى الدوران في فلكه، والارتكاز ومن ثم التفاعل، على ومع، ما ينفعل عنه، فواحدة من النتائج الأهم التي خلصت إليها العديد من البحوث الاجتماعية، التي بحثت في العلاقة بين الإنسان والعمل، تفيد بأن الإنسان السعيد في عمله، هو الأكثر عطاء وإنتاجاً، كما أنه الأنجح في حياته الخاصة، وهذا يبين الأثر الكبير والحاسم للعمل على الإنسان، وانعكاس هذا الأثر على دواخله سلباً أو إيجاباً، قبل منعكسه في أي منحى آخر.

البحث في “العمل” قاد بالضرورة للخوض في  مفهوم “بيئة العمل” الذي ظهر اصطلاحياً، في المؤسسات التي تعتمد في تحقيق أهدافها، على العنصر البشري، الذي يجب أن يتسم بالفاعلية والمهنية، لتأدية مهامه على أكمل وجه، وكان لهذا المبحث أن أثار الجدل حول عدة نقاط ملتبسة، منها: ما هي بيئة العمل؟ وإلى أي حد يجب أن تكون حاضرة ومتداخلة، ومؤثرة، حتى في علاقتنا الشخصية البعيدة عنها كما يفترض؟  وهل الوقت الطويل الذي نمضيه من يومنا فيها، يجعل علاقاتها الداخلية أقرب إلينا من خارجها؟ وما دورها هي بالتحديد في علاقتها معنا؟ هل هي بيئة حيادية، تقتضي المهنية البحتة وتعمل على توفير ما يحققها؟ أم أنها المكان الأكثر أماناً ومناسبة لنكون فيه حقيقيين، بلا أقنعة؟ هل نستطيع أن نكون أنفسنا ودون أقنعة فيها؟ هل تؤمن هي مفردات تظهير هذا الشعور المحرج بالمشاركة؟..

هذه الجوانب تتعرض لها الصحفية الأمريكية “باميلا بول” في مقال لها نشرته مؤخراً في “نيويورك تايمز ” تحت عنوان: “الاستعداد للعودة الكاملة للمكتب، وفيه تطرح مجموعة من وجهات النظر التي تتناول علاقة الشخص بعمله ككل، خصوصاً مع العودة التدريجية لما كان الحال عليه، قبل القطيعة التي فرضها وباء كورونا، القطيعة التي تسنى خلالها للعديد من المشتغلين بالشأن الاجتماعي، مراقبة هذا الوضع ومحاولة تحديد سمات بيئة العمل الأفضل للموظفين؟ مع الأخذ بالحسبان انعكاس هذه البيئة إيجاباً على رفع سوية الإنتاج، وتحسينه كماً ونوعاً.

تعرض بول في مقالها آنف الذكر، للعديد من النظريات والآراء التي تناولت “بيئة العمل” والعلاقة معها، طبيعة هذه العلاقة، وكيفية فهم هذه البيئة، موردة مقالة “مايك روبنز” حول هذه النقطة، وهو مؤلف كتاب “أحضر نفسك بالكامل إلى العمل” وفيه يحض على: التمكن من «الحضور بشكل كامل» إلى العمل، و«السماح برؤية الآخرين لنا» في مكان العمل. روبنز يرى أنه من «الضروري» توفير بيئة عمل “يشعر الناس فيها بالأمان بقدر يشجعهم على العمل بكل جوارحهم وكيانهم”.

الأمر إذاً لا يقف على الحضور إلى العمل، بل بكيفية هذا الحضور، فحسب منصة “بيتر آب”، التي تقدم نفسها باعتبارها أول من تطرق إلى مفهوم «الشخص الكامل»: «يعني ذلك الاعتراف بشخصيتك، بما فيها من أجزاء غريبة، والإفصاح عن اهتماماتك وآمالك وأحلامك، حتى مخاوفك، وإن لم يبدُ أي من ذلك ذا صلة بعملك” إلا أن المشكلة مع هذا الطرح، حسب باميلا، هي أنه لم يعد من المريح إحضار كافة تفاصيل حياة الناس وشخصياتهم إلى مكان العمل، والحضور يومياً بلا كلل أو ملل. كذلك لم يعد هذا ضرورياً فيما يتعلق بالإنتاجية، فلا أحد يريد أن يظهر حياته العاطفية أو آراءه السياسية أو قيمه أو هويته أمام زملائه على نحو يتعلق بأدائهم. بالنسبة إلى البعض، من الأفضل أن تظل الحياة الشخصية داخل النطاق الخاص.

إلا أن “إحضار نفسك بالكامل إلى العمل” ليس متاحاً للأغلبية من القوى العاملة، تورد بول، “ذاك أنه بالنسبة إلى أكثر الموظفين، الذين يجنون أرباحاً كبيرة، ليس المغزى والهدف من الوظيفة هو تمكين الموظف من تحقيق ذاته، بل توفير المأكل وأسباب المعيشة والحياة”.

ما الحل إذاً؟ أحد الآراء التي خاضت في الطرح، تقول بأن “المكتب ليس هو المكان الوحيد الذي توجد فيه، فلماذا تحضر كامل نفسك إليه؟ إذا أحضرت أفضل أجزاء أو جوانب منك، أو على الأقل الجزء الذي يؤدي العمل الفعلي، فعلى الأرجح سوف تحصل على مكافأة مقابل ذلك” فالمشاكل الشخصية بتعدد أنواعها واختلاف درجاتها، مكانها خارج بيئة العمل، التي يجب أن يتم وضع كل ما هو شخصي خارجها، كذلك من الظلم الطلب من مكان العمل أن يتعامل مع كل آمالك وأحلامك ومشكلاتك!..

وإذاً، العودة إلى العمل بعد القطيعة التي تسبب بها الوباء، قائمة، ووتيرتها آخذة بالتسارع في مختلف أنحاء العالم، هذا أمر محسوم بالنسبة لـ باميلا بول، إلا أن بيئة العمل الأنسب والأفضل، الواجب توفرها بعد هذه العودة، لم تُحسم طبيعتها بعد، وهي ستكون مختلفة باختلاف نوع العمل وطبيعته، عدا عن كونها لن تصبح عمومية، عالمية، بالمنظور القريب، مهما تم التنظير لها، فلكل عمل ظروفه، ولكل بلد نهجه.

وأنتم، ماهي بيئة العمل التي تجدونها الأكثر ملاءمة لطبيعة المرحلة القلقة بحد ذاتها؟..

تمّام بركات