ثقافة وفن

في روايته «لأنه كان»: وصلت رسالة إسماعيل مروة

نهلة كامل

أنا ابن العقل
لا لتدخل الدين في السياسة
العدالة في الحياة على الأرض
يختار د. إسماعيل مروة سيرة شاب من الريف السوري البعيد، ليكتب شهادة سردية حول ثلاثين عاماً من المصير السوري، ما بين إرهاب الثمانينيات من القرن العشرين وحرب 2011، ليقدم روايته الصادرة حديثاً «لأنه كان» المكتوبة منذ زمن مضى، لكنها ستعيده إلى النشر بعد قراره بالتوقف.. ربما لأن الرواية تعلن رأياً أو رسالة أحب أن لا تبقى قيد الضمير.
صفحة بيضاء
ويشكل من ذاك الضمير الأقرب إلى طفولة نقية، شخصية بطل روايته عبد الله الغريب الساعي إلى العدل والحب والخير، متتاليات فكرية ستسوقه إلى طريق الثقافة والمعرفة والفلسفة.
عبد الله الذي يرتشف التجربة أينما وجد سيكون مساحة بيضاء تشهد اشتباك الطبقات والقوى السياسية ومآلاتها التراجيدية في سياقه الحكائي العام والخاص.. وتعتمد «لأنه كان» سرداً أفقياً يتداخل فيه صوت الراوي ومونولج بطل الرواية، من دون تنافر أو تناقض، يستحضر بشكل انتقائي شخصيات ومراحل تتناسب مع السياق السببي الذي سيوصل الرواية إلى قناعات متحررة سلوكياً وسوسيولوجياً في سيرة الغريب المجازي التسمية.
بحيرة آسنة
ولا يعتمد مروة على اختيار استثنائي لبطله، هو نموذج عام في الحياة السورية، ابن الريف الفقير الذي ينشد العدل والحق، ويتبع جيل الأساتذة المثقفين الذين كانوا دعاة إرهاصات اجتماعية وسياسية قادمة، ليكون الأستاذ خالد نموذجه الإنساني وقدوته الفكرية.
صيغة الحبكة وتأويلاتها، بل أيضاً حمولاتها، أصيلة في الحياة السياسية السورية، سيتعرض خالد الماركسي الشيوعي والمتأثر بدون كيشوت، إلى خيانة أصدقائه وشاية شائعة في مرحلة طوارئ الثمانينيات ليذهب إلى المعتقل تاركاً في ذات عبد الله توقاً للمعرفة وتوصية بدراسة الفلسفة.. وطلب من زوجته هيام التي أحبها بصمت: هذه البحيرة آسنة لا تتحرك وأنت نقي.. اذهب بعيداً.. إلى دمشق، وتصميماً يقول: أريد أن أفهم.. أريد أن أكون أنا.
يشتغل د. مروة منذ هذا الفصل المبكر على موثوقية طموح عبد الله، موزعاً سيرته إلى عتبات سردية، ستنتهي عتبته الريفية بعد تفجيرات مدرسة المدفعية الإرهابية في حلب، ليلقى آنذاك رمزه خالد مصيراً مشابهاً لمعتقلي الإخوان المسلمين، وتعود إليه بالوجود معهم ذاكرته الدينية ليتحالف الماركسي مع نقيضه ويتحول إلى التدين.
عتبة المعرفة
وستبدو العتبة الثانية التي يبدؤها عبد الله في دمشق حلماً إنسانياً ومعرفياً يتحقق بحركة واقعية واحدة، حيث يلتقي أبا مروان، صاحب مكتبة في الحلبوني.. أحبه وتبناه ابناً وفتح أمامه أبواب الثقافة والعلم والثروة.
سيعيش عبد الله المرحلة المزدهرة في الحياة السورية بعد الثمانينيات حتى 2011، تلك الطفرة في سياقه الإنساني والعتبة إلى ولوج عالم الثقافة والفلسفة التي يقرر دراستها.. من دون فقدان حسه السليم ولا شعوره النقي.
وتحقق العتبة الثانية التي اشتغل عليها مروة بكامل اطلاعه على الحياة الثقافية والأكاديمية، وهو الأستاذ الجامعي والصحفي المتمرس، نمو شخصية عبد الله المعرفية، وقد أصاب مروة في اختيار وسطين فاعلين في الحياة السورية الأول كعامل ثم مدير مكتبة ودار نشر، والثاني كطالب ثم أستاذ في الجامعة السورية قسم الفلسفة.
وستنفتح سردية الرواية، بهذا، على عتبة القراءات واللقاءات والمقارنات داخل الساحة الثقافية السورية، حيث يتشكل غنى توثيقي صالح لتأويل تشكل تيار الوعي النقدي لدى عبد الله من خلال نشاطه وعلاقاته وقراءاته أولاً لأمهات الكتب العربية والعالمية.. وسيتحد صوت الراوي مروة وبطل الرواية في التعرف إلى عبد السلام العجيلي وفاتح المدرس ومدحت عكاش وعبد المعين الملوحي وسعد صائب ومحمد الحريري.. وستؤول ذاكرة د. مروة إلى عبد الله، الذي سيبقى غريباً ما لم ينتمِ إلى الفكرة وليس أمامه سوى دراسة الفلسفة.
مونولوجي سردي معرفي سيرفع الرواية إلى عتبة المحاكمة والتفكر في موازين العقل وستظل مائدة المعرفة تراكماً يحضر على عتبة بيضاء، لأن عبد الله لا يفقد نقاءه وحسه السليم. وسيتوقف، بعد قراءة محفوظ وجبران وديورانت وطه حسين عند دلالة شخصية الجبلاوي في «أبناء حارتنا»، وبالمقابل أمام مفاهيم سيد قطب التي تشعل الشارع الإخواني، وتلهم أبا مروان وأصدقاءه القول: الدولة هي المسؤولة عن التفجيرات لأنها لم تنصف الناس.. الظلم لا يقابل إلا بالظلم والقوة لا تقابل إلى بالقوة.. مؤكدين أن الإخوان هم أناس أحرار يفهمون ويفكرون ويكتبون، ليتوقف عبد الله أمام السؤال: ماذا يفكرون.. وما علاقة الدين بالسياسة.. وخاصة بعد اعتقال أبي مروان لحيازته كتب سيد قطب.. ولمدة 14 عاماً، وقد توازى الإخونجي هنا، مع خالد، رابطة العمل الشيوعي، هناك في ريف حلب البعيد قبل 30 عاماً.
الغريب
على مدى 400 صفحة سيكون المونولوجي الأفقي ملازماً لسرد شاقولي بالعمق في وجدان عبد الله.. وعلى ضوء التجربة يزداد تفكر عبد الله ضراوة في علاقة الفكر الديني بالإرهاب السياسي.. وتساقط الأبرياء أينما اندلعت النيران.
عرف أن سيد قطب منظر الإخوان المسلمين فسر القرآن مبيحاً العنف والقوة وهو يناقش فكرة الحاكمية والحكم في كتابه «في ظلال القرآن» وقادته الحقيقة إلى مراجعة في العقيدة والرأي: كل ما قالوه عن التخوين بالنار لم يردع الإنسان عن قتل أخيه الإنسان.
سياق التفكر الفلسفي سيقوده إلى احترام الرأي الآخر الذي لا تقبله العقيدة، مستنتجاً أن المجتمعات الإسلامية لم تبدع في الفلسفة وقد كانت لديه سقوف يجب ألا تمس الإيمان والخالق والنص المقدس، بل اعتمدت النقل وحاكمت من خلاله ابن رشد وابن عربي، وما بين النقل والعقل يقول عبد الله: أنا ابن العقل.
فماذا ستضيف الفلسفة وأساتذتها الأعلام عبد الكريم اليافي، نايف بللوز، الطيب تيزيني، وخاصة أن عبد الله يعيش مرحلة رخاء وتفرغ بعد خروج أبي مروان من السجن وتزويجه وولادة أولاده الثلاثة.
لقد وجد الغريب أهم إجابات عند الدكتور غانم هنا، وهو يتحدث عن العقل في فلسفة «عمانويل كانت» المثالية الذي يقول: إذا كانت سعادة البشرية قائمة على قتل طفل بريء، فلا كانت هذه البشرية ولا كانت سعادتها».
أين سيجد عبد الله ضالته في الحياة أم الفلسفة؟ سيصيبه الواقع بالصدمة الكبرى من جديد عام 2011، حين يكتشف أن أبا مروان قد باع سنوات سجنه لزعماء الإخوان المسلمين، وقبض الثمن، ويعيشه مع عائلته حياة باذخة، وملكية عقارات، وأرصدة في البنوك، وإيفاد لأولاده الثلاثة للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت ثم أميركا.
وستتالى خسائر عبد الله الإنسانية فتقتل صدمة الإرهاب أبا مروان الذي اعتقد أن الإخوان انتماء إلى الفكر فقط. ثم سيفقد زوجته وأم مروان في تفجيرات حرستا، ويعود عبد الله غريباً حتى عن أولاده الذين ينتمون إلى الجامعات الأميركية والمجتمع النقيض.. صدمة ستجعله يوزع كل ما ورثه عن أبي مروان ليقول: جئت من اللاشيء وعدت إلى اللا شيء.
فما اليقين الذي وجده عبد الله بعد تجربة ودراسة حققت مجازية كنيته: الغريب.
العدالة على الأرض
لقد زعزعت أحداث 2011 بحيرة الفلسفة التي كادت تستقر على يقين، وعكرت أفكاراً لا تجد جواباً على الإرهاب للأبرياء والخيانة للوطن. علماء سيد قطب مشجعو أحداث الثمانينيات، وأتباع القرضاوي وراء الإرهاب الجديد.
موازين العقل لدى عبد الله إلى جانب الضحايا التي طالها العنف، وأصدقاء أبي مروان يقولون: سنصل إلى الغايات لأننا شعب مسيس.
مائدة الفلسفة الواسعة يجب أن تتسع لحماية الإنسان، فما رأي عبد الله الذي اختار خسارة كل ما ملك، ويعيش معتكفاً في منزل- كوخ- صغير..
وماذا سيقول تعبيراً عن يقينه النهائي؟
لم يختر العقيدة ولا الإيديولوجيات السياسية، بل اختار فكر «برتراند راسل» الذي رفض دور الدين في الحياة السياسية، وهو صاحب كتاب «لماذا لست مسيحياً»؟
وبينما القذائف تتساقط فوق دمشق، كان عبد الله يحاضر في الحجة الأخلاقية لراسل، ويفسر نظرته الإيمانية للعدالة: «يفترض الإنسان أن هناك عالمين، أحدهما لا عدالة فيه وهو الذي نراه، والآخر لا نراه قد يكون فيه نوع من العدالة، لهذا يقولون إنه يجب أن يكون هناك إله وجنة ونار كي يكون هناك عدالة في نهاية المطاف.
ويضيف: لو كان راسل في زماننا ماذا كان سيقول عن العدالة؟ عن إنسان وأناس خسروا كل شيء، ولم يرتكبوا ذنباً إلا لأنهم كانوا هنا في هذا الكون المرئي بالنسبة لهم ولم يكونوا في الجزء الآخر اللامرئي.. إن راسل يرفض الأبدية في العقاب والجنة والجحيم، كل ما يتنافى مع فكرة العدالة والحياة النبيلة، ويريد العدالة في الحياة على الأرض».
تتوحد العتبات السردية في يقين عبد الله، الذي عاش في بيئة متدينة وعرف مدارس فلسفية وعقائد عديدة، برفض سيطرة وتدخل الدين في الحياة السياسية.
لقد سيطرت الدهشة المعرفية على مونولوج الغريب الريفي وهو يتطور في عتبات سيرته، لكن الشجن كان يسيطر على القص الروائي وهو يشتغل على خاتمة حزينة.
مونولوج طويل، يوجد رؤية د. مروة والغريب، لا يجد السعادة إلا في الذاكرة المنتقاة والمشتهاة للحب، في عتبة الضمير الحاضرة دوماً وهو يحاور الحبيبة والملهمة هيام، ويعقد من خلالها المقارنات المرئية مع اللاوعي النقي للخير والعدالة التي كانت سبيل خلاصة.. ومنصفاً في الوقت ذاته المرأة التي حضرت بشكل أطياف عديدة توزعت على جنبات الرواية من دون أن تدخلنا في رؤية فرويد السيكولوجية للسبب والسلوك والنتيجة.
يرفض عبد الله، أي مروة هنا، أن تكون المرأة وجبة اغتصاب، وجسد استغلال وعبودية، إنصاف المرأة هو أول سهم يشير إلى الخير والجمال في الرواية يبدأ بحبيبته الأولى هيام، وينتهي عند استمراريتها في ابنتها نور التي وهبت عبد الله آخر لحظات سعادة في حياته، والحياة ليست سوى لحظة سعادة مع من تحب.
قال عبد الله رأيه في الفلسفة والدين والسياسة ومات فوق جسر الرئيس بعد نظرة حب.. لشام الوطن أولاً وأخيراً..
وقد وصلت رسالة إسماعيل مروة في «لأنه كان»، التي كرسها لدين العقل والعدالة.. فهل العقلاء في هذا الزمن غرباء كعبد الله؟ مهما كان الجواب، فمن المؤكد أنهم يعيشون سيرة حياة معذبة.. رأت بعين الحق.. وحاكمت بمنطق الحس السليم.. رسالة جريئة شجاعتها الصدق.