“القديس فرانسيس” الخلاص بين مذهبين لتيار واحد
أي طريق يوصلنا إلى الله، أو بعبارة أخرى أي طريق يريد الله أن نعبرها لنصل إليه؟ هل هي الطريق التي يختارها الشاب فرانسيس؟ أم هي الطريق التي يؤمن بها مرافقه ليو؟ السؤال الذي شغل الكنيسة في أزمان سابقة، وكان من أسباب انقسامها، يجيب عنه الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس 1883-1957 في روايته “القديس فرانسيس”، الرواية التي تكاد لا تُذكر، عند الحديث عن أعمال صاحبها!
لم تحظَ “القديس فرانسيس” بشهرة بقية اعمال صاحب “الإغواء الأخير للمسيح” وقد يكون أحد أسباب هذا الأمر، هو طغيان روايته فائقة الشهرة “زوربا” على باقي نتاجه ومنه “القديس فرنسيس”، رغم أنها صدرت بعدها، وهي وفق رأي شخصي، أي “زروبا” رواية سياحية، مقارنة ببقية أعمال صاحب “الأخوة الأعداء” تستعرض اليونان وجمالها الطبيعي، مع مجموعة شيقة من الأفكار الفلسفية الرياضية نوعا ما، لكن هذا السبب، هو ظاهر الموضوع، فأعمال كازنتزاكيس الأدبية، خصوصا تلك التي تخوض في الشق الديني، وبما يتعلق بقضية الإيمان ومفهومه بالتحديد، قوبلت بجدل كبير في الأوساط الكنسية، إلى درجة أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، منعت رواياته! وتم وضع بعض أعماله، على قائمة الكتب الممنوعة في الفاتيكان سنة 1954.
الرواية التي يستند صاحب “الإغواء الأخير للمسيح” في تقديم شخصيتها الرئيسة، على واحدة من الشخصيات الدينية، صاحبة الحضور المؤثر بين الفقراء والبسطاء، في زمانها، وهي شخصية “فرانسيسكو دي أسيس”-1181-1226، تذهب نحو عرض بل وتصوير، لطبيعة كل طريق من الطريقين، سواء ذاك المليء بالآلام والقسوة، أسوة بطريق المسيح نفسه، بل بتهويل زائد أحيانا عنه، أو ذاك الذي يرى الخلاص في أن يحيا الإنسان، ممتلئا بالنعم التي جاءت أساسا، من كون المسيح هو الفادي، والإيمان بهذا وحده كافيا لدخول ملكوته، وهذا أساسا ما يطلبه في قوله: ” من آمن بي ولو مات فسيحيا”، ومن خلال عرض المعالم التي يبتكرها أدبيا وفلسفيا أيضا لكل من الخيارين، سيمرر أفكاره وهواجسه الدينية، التي ستدخل في لب الحوار المستمر، الذي يجمع بين بطلي الرواية “فرانسيس” ومرافقه ليو، ضمن حكاية قالبها تقليدي كلاسيكي، تحكي قصة شاب ثري محب للحياة، نبيل من النبلاء، يقضي وقته في الشراب والرقص والغناء، تحت شرفة الفناة التي يحبها، يقرر أن يسلك سلوكا مغايرا في الحياة، أن يبحث عن الله، ويصل لمرحلة متقدمة جدا، من بحثه عن خلاص روحه، أو الطريق إلى الله، بعد أن يختار الذهاب في الطريق الموحشة، المؤلمة؛ يترك أسرته وحياته الباذخة، يهجر الترف واللهو، ويبدأ رحلته الشاقة، بمرافقة الشخصية الكاشفة “ليو” والتي سيكون للحوار الذي يدور بينها وبين شخصية فرانسيس، الدور الرئيسي في عرض أفكار كازنتزاكيس وفي طرح أسئلته أيضا، كما في الحوار التالي:
الحوار يدور بعد ليلة قاسية، قضاها فرنسيس متألما بقسوة، جراء جلده لنفسه، يراه ليو وقد شارف على الهلاك، كما سيراه في مواقف مشابهة، فيدور الحوار التالي، بعد أن يصحو القديس من سكرات السياط:
فرانسيس: ما هي طريق الخلاص بالنسبة لك يا ليو.
ليو: أن أفعل ما خلقني الله كإنسان لأفعله، أن أعمل وأتزوج وأنجب أبناء يعمرون الأرض، عندما أعود إلى البيت من العمل متعبا، وأجد قطعة ضأن مشوية للطعام، وزجاجة نبيذ، ثم بعد هذه الوجبة أحضن زوجتي وألاعب أولادي، فهذه هي الجنة، وهذا هو الطريق، وأنت كيف تجده يا فرانسيس؟
فرانسيس: نار محرقة، يا ليو.
الحوار السابق، يختصر جوهر الرواية الأنفة الذكر، وإن كان يجري حول نقاط خلافية أخرى، إلا أن ما يميز هذا الحوار، الديني، الفلسفي، هو إظهار فكرة كل طرف، بشكل جذاب، ومنسجم مع طبيعته الشخصية، دون أي محاولة من أي طرف، لإقناع الآخر برأيه، وهذا ما ستسير عليه أحداث الرواية، المستندة بخلفيتها الفلسفية، على خط عام ديني، وهو الناظم لوقوعها، حسب درجات عرض تطور الحبكة، وتطور الصراع الأفقي والعامودي أيضا للشخصيات.
بالشكل، يستخدم صاحب “المسيح يصلب من جديد” تقنية أجداده الفلاسفة في الحوار، أو “الجدل” وإن كان بتجنب جعل ما هو بدهي، ليس سابقا بالضرورة، على بداية “الديالوغ” الذي يتصاعد وينخفض على إيقاع الفعل، الشكل الذي استخدمه في “زوربا” أيضا، ولكن بمضمون أخلاقي، فلسفي، يُدخل “العدمية” الرائجة حينها، في مواجهة مع الكلاسيكية، وكعادته، يعرض وجهات النظر كما لو أنه حيادي، وناقل فقط، وهذا ما سيجده القارئ في النهاية: رأيان يُعرضان عليه، بكل حججهما، ودون أي توجيه لتبني رأي ما منهما، دون تسجيلية أو توثيقية منفرة.
“القديس فرنسيس” رواية ممتعة في العموم، حوارات رشيقة، شخصيات مكتوبة ببراعة، ينجح مؤلفها في جعل عوالمها، تتصل بالبعد الفلسفي اليوناني، من جهة، ومن جهة أخرى، يجعلها متصلة بالمسيحية، مازجا بينهما كما لو أنهما أساس كل سؤال فلسفي، وكل سؤال ديني بطبيعة الحال.
تمّام بركات