ثمان سنوات على رحيل “الشحرورة”
منذ ثمان سنوات، أغمضت الفنانة اللبنانية صباح عينيها للمرة الأخيرة، بعد حياة شخصية وفنية حافلة بالمدهش والمفاجئ والمحزن أيضا! حياة بدأتها في بيت والدها الكائن قرية “وادي شحرور” قضاء بعبدا، عام 1927، لتطير “الشحرورة” بالزمن 87 عاما، عندما أعلن قلبها رغبته في الراحة التي حُرمت منها طويلا، رغم أنها كانت من أقوى الشخصيات النسائية المؤثرة في زمنها، وكأن الموت قرر أن ينهي كل الدعابات التي بدأها مع هذه المرأة النادرة، أو ربما هي قررت أن رحيل الوهن الباقي في القلب وبين الجوارح المخذولة، صار ضرورة وليتكفل الزمن بذلك.عشاقها ومحبوها، تمنوا لها في بعض اللحظات التي شاهدوا فيها، كيف بدأ عطرها بالزوال، الراحة الأبدية وخلود الوهم، الخلود الذي كان واحداً من الخيارات التي حققتها صباح وبسن مبكرة.
رحلت صباح في 26 نوفمبر،2014، لكن صوتها صار من الأصوات التي حفظتها الذاكرة الجمعية في وجدانها، الصوت القوي المطرز بالغنج وطاقة اللطف الأنثوية الشرقية البارعة، والصورة التي عرفت “الشحرورة” وبشكل طبيعي دون عناء أو تكلف، أن ترسمها في أذهان محبيها، عن صبية بارعة الدلال، تقف على المسرح كطاغية شقراء، وتترك لصوتها أن يعتق العبيد ويرفع أقواس النصر في المطارح التي وصلها صوتها قادماً من جبال لبنان، من بين صخوره العصية وجداوله المرحة. صوت كان من الصعب على “السنباطي” تطويعه في تعامله الأول معه، فتلك المقامات التي يعزفها “السنباطي” ويبدع فيها، لا تعرفها بنت الجبل، بل تعرف جيداً كيف تقول “الأوف” فتنداح الينابيع وتعقد لها العصافير صباحاً يشبه وجهها، طالعاً من بين مرايا الرب في قراه التي يزورها باكراً.
التعاون الذي لم يقع بينها وبين السنباطي، أحد أشهر الملحنين العرب، كان ليكون سدا في وجه أي فنانة أخرى، لكن صباح، لن تترك لعثرة صغيرة كهذه، أن تؤخرها عن موكب نورها القادم فجره قريباً محلياً وعربياً وعالمياً، وها هي “جانيت فغالي” تقف على مسارح الوطن العربي من أقصاه الى أقصاه خاطفة القلوب بأغانيها الآسرة، قبل أن تطير إلى مسارح عالمية أخرى مثل “أرناغري” في نيويورك ودار الأوبرا في سيدني، وقصر الفنون في بلجيكا وقاعة ألبرت هول في لندن، وكذلك على مسارح لاس فيغاس وغيرها، ناقلة الكلمة اللبنانية العامية إلى مستويات أخرى في السمع والفهم.
كانت صباح من الفنانات اللواتي احتللن واجهة دور السينما والمسارح طويلا، فلقد كانت بطلة العديد من أهم الأفلام العربية، ومنها: الرجل الثاني/1959، الحب كده 1961، الأيدي الناعمة 1963، ثلاث نساء 1968، باريس والحب 1972، ذلك بالإضافة لعدد كبير من الأغاني،3500 أغنية باللهجة اللبنانية والمصرية، كما غنت بالأجنبي أيضا، وقد دخلت موسوعة غينيس كصاحبة أكبر إرث فني في التاريخ.
عرف عن الشحرورة كثرة تبدل أحوال قلبها الذي بقي مضطرباً بالعشق حتى سنيها الأخيرة، فالمرأة التي تزوجت تسع مرات من أشهر الفنانين والسياسيين العرب، لم تنعم براحة بال الخاتمة المفترضة لسيدة قدمت وأعطت من روحها وعمرها الكثير، وهاهم من استغلوا مجدها ليرتقوه، ينفرطون عنها كلما ابتعدت الكاميرات عنها، للأسف هذا ما رأيناه في سلوك العديد من محدثات النجومية، فنانات السيلكون والصوت المخنوق، اللواتي أعدن تقديم بعض أغاني صباح بأصوات منفرة، دون الاكتفاء بذلك، بل بإعادة أغانيها وتصويرها بطريقة الفيديو كليب وذلك بوجود “صباح” كمشاركة ومساهمة في إطلاق نجومية تلك أو تلك. ظهورها كان محزنا في تلك المرحلة المتقدمة من حياتها، التجاعيد التي حرصت طوال عمره على إخفائها، ظهرت بوضوح، لم تقدر الإضاءة على إخفائها، أما الصوت فقد أرهقه الزمن، فما عاد قادراً على خلع القلوب من الصدور كعادته التي أحبه الناس فيها.
تردد الكثير من الكلام عن أن حاجتها المادية كانت سبباً لتلك “الظهورات” التي لم يفضلها عشاق الشحرورة أبداً، ولم تكن حتى هي تريدها لإدراكها بأن الناس الذين أحبوا صوتها كما أحبوا جمالها المتفجر، لا تريد أن تراها امرأة عجوزاً واهنة، بل تريد أن تبقى تستمع ابد الدهر إلى “يانا يانا” من صوت صباح الخالد وصورتها المبهجة.
تمّام بركات