في نظرية المبادرة.. وراهنيّتها
د. عبد اللطيف عمران
لا تتحقق الجدوى من المبادرة إذا تم التركيز عليها نظرياً فقط، لأن هدفها بالأساس عمل ونتيجة تنموية، ومع ذلك لا يمكن إنجاز فعل المبادرة قبل نشر ثقافة المبادرة وتعزيزها، وإدراك أهمية سلوك المبادرة في تطوير بيئة العمل والإنتاج والمردود.
المبادرة هي رؤية برامجية ناتجة عن طرح أسبقي استشرافي لمعالجة قضايا المؤسسة أو المجتمع أو الدولة، وتصدر عن فرد أو مؤسسة أو منظمة أو حكومة، وهي ترتكز إلى المنظور التكاملي، وإلى الربط بين الجانبين العملي والنظري لتظهير حلول جديدة، مستفيدة من دراسة الواقع بشكل عميق وموضوعي، ومن المعطيات التكنولوجية والمعرفية والسيسيولوجية.
في الظروف التي نعيشها ويعيشها غيرنا في هذا العالم اليوم، والتي يمكن أن تكون، أو تشكّل الحرب العالمية الثالثة، بعد أن دخلت المنظومة الإمبريالية في الطور الوحشي، مقابل صعود قوى عديدة وفاعلة في المجتمع الدولي تواجه بقوة وفاعلية هذا الدخول وهذا الطور … لا يمكن لأيّ كان، فرداً، أو مؤسسةً، أو دولةً، أن ينأى بنفسه عن المبادرة نظرية وفعلاً، ولا سيما نحن في سورية التي تشكّل منذ مطلع الألفية الثالثة وغزو العراق -واليوم أكثر – مركز الاستقطاب العالمي، وذلك قبل أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. نحن في هذه الظروف يجب أن نتساءل عن عدد المبادرات الخلاقة ونوعيتها التي قامت بها المؤسسات والمديريات المركزية والفرعية والوزارات والمنظمات والنقابات والأحزاب.. وفي مردود هذه المبادرات على المواطن وعلى المجتمع وعلى الدولة؟؟!!
وعلى أيّة حال، فالمبادرة هي عملة صعبة، وقطع نادر يستحق البحث عنه، والمغامرة في سبيله، لأنها في الأساس مقترنة بالجرأة والشجاعة، وبغير قليل من التجريب والمغامرة والقدرة على تحمّل المسؤولية، ولذلك يُقال إن أي مشروع ناجح لا يتميّز إلا وللمبادرة الفردية حضور فيه، وهي بالمقابل تميّز الفرد المبادر بأنه إنسان شجاع، وطموح، ومتفائل، وهو مواطن متجدّد وبنّاء في أفكاره وعلاقاته وطروحاته.
وذهنية المبادرة هي المقترنة مسبقاً بالتحفيز، والتطوير، والتغيير نحو الأفضل، وهي ضد الثرثرة، والإحباط، والعجز والتشاؤم، وتندّد على الدوام بـ(أسمع كلامك يعجبني، أرى أفعالك أتعجّب)، كما أنها توجّه العقل والإرادة والفعل نحو الاستجابة للتفاعل البنّاء مع مختلف الظروف ولا سيما الصعب منها، وترفض تماماً تعليق الفشل والتعثّر على مشجب ظروف الحياة العامة.
ولذلك نرى في النظرية، وفي الفعل، وفي الواقع أيضاً، أبحاثاً كثيرة في عوائق المبادرة، وبالمقابل في فوائدها، فمن العوائق: كثرة الشكوى – الميل نفسياً إلى التأفّف والتذمّر – الخوف – كثرة الكلام غير المسؤول – بث الشائعات وتسريبها لإضعاف الروح المعنوية – ضعف الوعي والانتماء.
أما فوائدها فكثيرة، ومنها: أنها الأساس في أي مشهد تنموي ناجح، وهي ذات عدوى إيجابية بنشر الثقة، والأمل، والتحفيز، والتغيير نحو الأفضل، هذا على الرغم من أن الإحصائيات الإدارية العلمية تقول إن أكثر من 80٪ من المديرين يشعرون أن أغلب الموظفين غير مبادرين، مقابل أكثر من 90٪ من الموظفين يرون أن المديرين هم سبب غياب المبادرة.
وما يهمنا نحن من هذه النظرية هو الواقع، واقعنا، فأين نحن من المبادرة، ولطالما ارتاح كثيرون منا للركون إلى الحديث عن المؤامرة: الشمّاعة أو المشجب؟
إننا – ودائماً كالعادة – في الوقت الذي أسرفنا فيه في الحديث عن المؤامرة، فإننا أسرفنا أيضاً في الحديث، وبأشكال وصيغ ومعانٍ عديدة، عن قصور العامل الذاتي، ولم ينقص أغلبنا الميل إلى النقد، بل إلى الانتقاد، على الرغم من أن المؤامرة علينا: شعباً وأرضاً وقيماً ومبادئ وثوابت وجيشاً وقيادة، واضحة وضوح الشمس، فقد «فلتت الصيدة» رغم إنفاق مئات المليارات من الدولارات على اصطيادها والإيقاع بها وتحييدها.. وعلى الرغم من المؤامرة هذه – في وضع دولي يكاد يتجه نحو الجنون العام – فإن المبادرة لم تنقطع ولم تتوقف في أي منعطف أو مفترق، وذلك بغض النظر عن النتيجة والواقع (الوضع المعيشي والمعاشي – الخدمات والإدارة… إلخ) اللذين يُقلقان أي وطني أو عاقل أو طموح، لكن كان ولا يزال وسيبقى الدافع كما قال الشاعر العربي السوري: شرف الوثبة أن ترضي العلا / غلب الواثب أم لم يغلب. فمع هذا كنّا وما زلنا بحاجة إلى المبادرة كنهج، وكمنهج، وكاستمرارية.
إن الشهادة مبادرة، وترميم الجراح مبادرة، وأخذ القرار بالصمود والمواجهة في وجه الإرهاب والتطرّف والتكفير، والصبر على الحصار والعقوبات والاحتلال والعدوان مبادرة، وهذا وغيره الكثير مما نعانيه، ومما يجب ألا نندم عليه، وألّا نفكّر أو نبحث ببدائل عنه، لأن تلك البدائل نتائجها أكثر صعوبة وإيلاماً، فالعالم اليوم جميعه يسير على حافة الهاوية، ويمارس مضطراً لعبة عض الأصابع ويكابر فلا يصرخ، ولا يجأر بالشكوى.
فسورية واعدة بأرضها وبشعبها، وبثرواتها وتراثها، وبقيمها ومبادئها، وبجيشها وقائدها مؤهلة لأن تكثر فيها المبادرات وتُثمر، وهي لم تركع ولن، وكل من خذلها سيندم طال الزمن أو قصر، وهي بحاجة إلى مزيد وإلى استمرارية لعقلية المبادرة ولفعلها ونتائجها المعنوية والمادية كمطلب أساسيّ مُلحّ من وعلى مختلف المستويات. فلولا المبادرة المستمرة لما وقفنا في وجه أبشع تحديات، وأسوأ مخططات، وأقسى استهداف في تاريخنا.
ومن اجترح زمام المبادرة إلى الصمود والصبر والكبرياء فسيجترح وسيمتلك زمام المبادرة إلى النصر والمستقبل الواعد، فلا خوف ولا إحباط، ولا تخاذل بعد هذه التضحيات، وإنما النصر صبر ساعة.