مالينا
كسرة خبز مرمية على الطريق، رفعتها تلك السيدة الجميلة عن الأرض، قبلتها ووضعتها فوق حافة سور قريب، ثم تابعت سيرها دون أن تقوم بأي حركة استعراضية، كتلك التي تفعلها النساء اليائسات عادة، وهن يشتهين أن يسمعن كلمة إطراء واحدة فقط لا أكثر، من أي رجل عابر ولو صدفة بجوارهن، بغض النظر إن كانت كلمة مناسبة أم العكس تماما!
في اليوم الثاني، كان كل رجال الحيّ، يرفعون كل كسرة خبز مرمية على الطريق، يقبلوها أولا، ثم يضعوها برفق قرب الكسرة التي رفعتها! وحدث ذات معجزة، أنها مرّت وعطرها يتبعها كغيمة، بالقرب من تاجر عقارات، “يتشارع” ومشترٍ محتمل، لبيت في الحي نفسه، وكان الجدال الدائر بينهما بسبب عدم اتفاقهما على السعر، ترتفع وتيرته ويكاد يصل إلى طريق مسدود، إلا أن المشتري المحتمل سأل الدّلال إن كانت تلك السيدة التي جاروتهما للحظات أثناء عودتها إلى بيتها، تقطن في الحي ذاته؟ وعندما أخبره التاجر أنها ستكون جارته في حال اشترى البيت، سارع الرجل لإتمام صفقة البيع، ودفع ضعف المبلغ المختلف عليه ثمنا لبيت لا ميزة إضافية له، إلا أنه البيت الذي ستمرُّ حتما بجواره، ولو صدفة كل شهر أو سنة أو حتى عقد!
ما تفعلهُ تلك الجارة الجديدة، بكل عفوية وبساطة، يصبح عرفا وقانونا، ذات يوم استيقظ الجيران على مشهد لدب قطني ضخم، معلق على حبال شرفتها، في اليوم التالي، كانت جميع شرفات منازل الحيّ، تحمل حبال شرفاتها، دببا قطنية من كل الألوان والاحجام، حتى أن بعضها كان يُصدر صوتا يقول: “Love You”، وعلى البقعة القطنية البيضاء، تلك الموجودة لدى بعض تلك الدمى، كُتبت بألوان فاقعة ويائسة، أشعارا وقصائد شعرية وأرقام هواتف، وكلام بل وعود، عن استعداد غير مشروط للحب، بل برجاء يائس ومستمر لاحتمال حدوثه!
تلك السيدة كان يصلها، وهي مستلقية بتكاسل شهي على أريكتها، التذمر المكتوم لرجال يشعرون بأن كل ما مرّ من حياتهم كان عبثا ووقتا ضائعا، إلى أن ظهرت بينهم وعرفوا أنها من يريدون، لكن شيئا في حياتها اليومية لم يتغير، فلا زالت عصية وبعيدة وقصية.
رجال الحي، تغيروا لأجلها، قصوا أظافرهم، قلموا أحاديثهم، صاروا يناقشون نيتشه وجحيم دانتي، وموسيقى “بحيرة البجع” حتى معاملتهم لزوجاتهم تغيرت، صاروا ألطف، وأقل شكوى من عدم جهوزية الطعام، أما أهم ما حدث من تغيير في ذلك الحيّ الراكد، فهو اختفاء أكياس القمامة من الطريق، بعد أن صارت جنبات الحي مزروعة بالياسمين، الذي اتضح أنها لا تفضله، فتم قلعه في ليلة لا ضوء قمر فيها، واستبداله بأشجار الأكاسيا الليلكية، فلا بد وأنها تذكرها بالحديقة التي نبتت فيها، كما علل أحدهم.
ولأن لكل حكاية عن امرأة جميلة، نهاية غرائبية، استيقظوا في يوم عطلة شتوي، ولم تكن موجودة بينهم، اختفت فجأة بالطريقة ذاتها التي ظهرت فيها، بحثوا طويلا عنها، فتشوا في كل مكان عنها، حتى في أدراج نواياهم السرية، دون أن يجدوها، فأصابهم اليأس جميعا من العثور عليها، فدخلوا كهوف عزلتهم الجديدة، يلوكون ذكريات لم تقع، جمعت كل واحد منهم بها، وعاد الحي إلى ما كان عليه، ظهرت أكياس القمامة من جديد، وخرجت أصوات المشاكل الزوجية مزمجرة من النوافذ، اختفت شجيرات الأكاسيا وظهر مكانها “بسطات” لبيع التبغ والأمل المعلّب، وقصص الحب المبتذلة؛ غاب أثرها وكأنه لم يكن، حتى ظهرت كما أشيع عنها لاحقا، في فيلم يحمل اسم “مالينا” وكانت تجلس في مقهى وسط ساحة عامة، وحولها تخفق قلوب الولاعات المشتعلة لأجلها، كما يجب أن يكون تماما.
“كنت أعلم أنها نجمة سينما” قال أحدهم، فأجابه آخر بأن السينما والأضواء خطفتها منهم، وبأن الغريم الحقيقي لهم، هو “الجمهور”، الجمهور كله!
تمّام بركات