الوسوف.. روح الإنسان المحب
ليست غريبة تلك المحبة التي أحاطت بالفنان الكبير جورج وسوف، بمصابه الأليم والموجع، الرجل الذي اجتمع على محبته الناس، ومن كل مكان، ليس من الأمس، وحين المصاب، بل منذ عشرات السنين، ولهذا الفنان مكانته المميزة بين الفنانين المحليين والعرب الكبار، والمكانة الأكبر عند محبيه على امتداد خارطة الوطن العربي، بل وحيث تواجدت الجاليات العربية في العالم، فقبل روح الفنان الفذة التي تسكنه، ثمة روح سابقة عليها، روح الإنسان المحب، صاحب القلب الأبيض، العفوي، الشهم، الغيور، الكريم، النبيل في خصومته كنبله في صداقته، وهذه الروح هي الأساس في تلك المحبة الغامرة، التي رافقته منذ بداية مسيرة فنه، وستبقى طويلا في قادم الزمان، وتكفي ربما هذه اللقطة النادرة، لتُخبر عن طبيعته الإنسانية، ففي الوقت الذي ينزف قلبه فيه حزنا، على فقدانه ابنه البكر “وديع”، خرج ليطلب من المحبين والناس، الذين توافدوا إلى الكفرون لمشاركته حزنه، عدم إطلاق الرصاص، كما يحدث في الجنازات عادة! ولأنه “أبو وديع” فهذا ليس غريبا عليه، ولكن أن يكون منتبها لهذا الأمر، بل ويشغله وهو في بثر من الحزن، وفي مصاب جلل كفقد الأبن، فهذا يزيده رفعة ومكانة في القلوب، التي حزنت لحزنه كما فرحت لفرحه.
أما أسباب هذه المحبة فكثيرة، وأسباب استمرارها أكثر، ولربما لمرور على بعض من محطات حياته، أن تبين بعضا من سببها، أو أسبابها.
الوسوف بين الحياة والفن
بين كبار الفنانين السوريين والعرب بل العالميين أيضاً، يقف اسم جورج وسوف “أبو وديع –١٩٦١-علامة فارقة مميزة في تاريخ الأغنية المحلية والعربية، فالرجل الذي يمشي اليوم نحو سبعينه، بكل نجوميته المنقطعة النظير ، عاش حياة نجومية مستمرة، لم تنقطع يوماً رغم تغيّر أمزجة “السميعة” واختلاف المفاهيم الفنية والطربية، وما زالت مبيعات أغانيه هي الأعلى بين الفنانين “الكوول” بين جمهورهم وفي غير ملعبهم، المغنون الذين يعتبرون اليوم الأرقام الصعبة في عالم الفيديو كليب، نظراً لضخامة المكنات الإعلامية التي تقف خلفهم، مثل الكثير من “مطربي” عصر انحطاط الفن العربي، الذين ظهروا بسبب الهزات الارتدادية العنيفة لـ”كامب ديفيد”.
الحالة الفنية التي شكّلها أبو وديع، مرّت بالعديد من المراحل التي تجاوز فيها الرجل، هويته المحلية في الأغنية التي قدّمها، ونجح نجاحاً باهراً فيها، فابن الكفرون سوف يدرك في بداية اشتغاله بالغناء، أهمية فن أصيل كالعتابا مثلاً، ونادراً ما خلت حفلاته التي بدأها في سبعينيات القرن المنصرم من تأدية العديد من مواويل العتابا التي علقت في بال الجمهور على اختلاف ، وسوف يكون لموال غناه في بداية طريقه الفني، أن يأخذه من يده نحو مطارح تحقيق الحلم، ويضعه حيث يستحق، يقول الموال:
“سألتها من وين قالت من حاصبيّا/ولمّا غمزت إمها حاص بيّا/ولمّا جيتها بالليل حس بيّا/أتاري الملعون بعدو ما غفي”
وقام أيضاً بتأدية العديد من الأغاني التراثية بأسلوبه الفريد، كالدلعونا والميجانا، وعُرف أبو وديع في دول الجوار السوري واشتهر أيضاً على الشاشات الأرضية التي كانت تضع وصلات أغانيه لساعات طويلة من بثها اليومي، كما في الأردن مثلاً.
غدا اسم جورج وسوف، مرتبطاً بأهم حفلات السهر الطربي في الشرق الأوسط، بعد أن بدأ أيضاً بتقديم مجموعة من الأغاني الطربية لكبار الفنانين العرب ،وحتى غير المعروفين منهم، ليشهرهم الوسوف بما فعل، كما حدث مثلاً مع أغنية “سلّمتك بيد الله” وهي للفنان العراقي كاظم الساهر، الذي عرفه الجمهور العربي بعد أن غنى له الوسوف، وليصبح اسم أبو وديع أحد أهم الأسماء الحاضرة بقوة في المهرجانات العربية، دون أن يتنازل هذا الرجل عن معرفته الأكيدة بكونه نجماً عربياً لا يُشقّ له غبار، نجم بروح دمثة وحياة شخصية بقي الكثير منها مفتوحاً على حياة محبّيه لبساطة الرجل وقرويته، التي لم يتنكر لها أبداً حتى وهو يغنّي فوق أضخم المسارح العالمية.
نجومية أبو وديع ومحبّة الجمهور له، والتي وصلت في بعض الأحيان لحصول الكثير من حالات الإغماء لدى إطلالته، ووقوع العديد من حالات الطلاق، لزوجات يردن رجلاً صوته كالوسوف يحرّك المشاعر أبداً، انتشرت بين جميع الشرائح العمرية “للسميعة”، حتى إنه من النادر أن تجد أحداً لا يحبّ “أبو وديع”، وفي باله تخطر عدة أغانٍ بقيت معلّقة في وجدانه له، مهما شغلته الأيام عن متابعته.
أهم ما ميّز مسيرة هذا الفنان السوري العملاق الذي أطلق عليه لقب “سلطان الطرب” أنه لم يقدّم أي تنازلات لشركات الإنتاج فهي التي سعت خلفه، ولم تزل تسعَ.
أبو وديع غدا ظاهرة فريدة، في كثرة المغنين الذين استعاروا صوته ليغنوا به، وهم حتى اللحظة وبعد مدة طويلة من اشتغالهم في الفن، لم يستطيعوا أن يخرجوا من عباءة أبو وديع، حتى في الشكل الخارجي الذي كان أبو وديع أحد أهم محرّكيه في المجتمع الفني، فعندما ربّى ذقنه مثلاً صار الموضوع موضة بين الفنانين، والأمر على بساطته إلا أنه يدل على الكثير، فما يفعله الوسوف، يصبح رائجا، وهو سيلقى صدى طيباً بين الناس، حتى لو كان في شأن بسيط كهذا.
اليوم، وقلوبنا تقف معه ومع أسرته في مصابه الكبير، نعزيه بمن فقد، ونتمنى أن تواسيه هذه المحبة الكبيرة، التي لم ينفرط عقدها مع محبيه يوما، وهاهم “الحبايب” جميعا يرددون معه: يوم الوداع.
تمّام بركات