الأدب متأثراً بالزلزال!
ما من خيار حتى للكوارث الطبيعية، في أن تكون أو لا تكون، موضوعا أدبيا، يخضع لسلطان الأديب، “شاعر، روائي، قاص” الذي يوظف أحداثا مهولة وقعت، في سياقات أدبية متعددة، ووفق رؤى خاصة، بطبيعة هذا التوظيف، ذاك أن الكوارث الطبيعية بأثرها المدمر، على المجتمعات البشرية، عبر التاريخ، شكلت على الدوام صدمة لا يمكن تفاديها، لمن عاشها واختبرها، ناجيا منها، وهذه الصدمة هي من المحرضات الفعالة، للخيال الأدبي، ولفعل الكتابة بالتالي.
هاروكي موراكامي، الروائي الياباني الشهير كتب روايته “ما بعد الزلزال” بتأثير مباشر من مفاعيل زلزال “كوبي” الذي ضرب اليابان 1995، والرواية تعالج ببراعة المرحلة التي أعقبت الحدث، والتأثيرات النفسية التي تركها، والتي يصفها الكاتب بكونها كانت بمثابة “زلازل داخلية وقعت في النفوس” خصوصا وأن الحياة الاجتماعية في المجتمع الياباني، بإيقاعها السريع، حولت الإنسان إلى ما يشبه الآلة، وهذا التناسق الذي ظهر وكأنه السمة العامة للحياة هناك، ليأتي الزلزال ويهشم هذه الصورة الرتيبة، وليغير كل شيء في لحظات.
وها هو أسامة بن منقذ -1095-1188-يضع كتابه الأشهر “المنازل والديار” بعد الزلزال العنيف الذي ضرب سورية عام 652، هادما حصن “شيزر” الواقع شمالي حماة، على رؤوس من فيه، من أهل بن منقذ وأبناء عمومته وأقاربه، والكتاب عبارة عن مراثٍ لكل من فقدهم، ويقع في 500 صفحة، ومنه نورد هذه الأبيات البديعة، التي وردت في قصيدته “حمائم الأيك”:
ماتوا جميعاً كَرجعِ الطَّرْفِ وانقرضوا هل ما تَرى تارِكٌ للعينِ إنْسانا
لم يتركِ الدهرُ لي من بعدِ فقدِهِمُ قلباً أُجشِّمُه صبراً وسُلوانا
فلو رأَوْني لقالوا مات أسعدُنا وعاشَ للهَمِّ والأحزانِ أشقانا
لم يترك الموتُ منهم من يُخبِّرُني عنهم فيُوضِحُ ما لاقَوْهُ تِبيانا
والكتاب صار مرجعا أدبيا مهما للدارسين والباحثين إلى اليوم، وإن كان أيضا وثيقة تاريخية مهمة تروي تاريخ الحصن، وجزئا مهما من تاريخ سورية القديم.
زعيم الأنوار الفرنسية، الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير-1649-1778-ترك الزلزال الذي ضرب مدينة لشبونة البرتغالية، عام 1755، في دواخله أثره الكبير، بعد أن دمر المدينة وقتل أكثر من 100 ألف إنسان، فكتب قصيدة حول كارثة لشبونة، معتبرا أن الزلزال جاء انتقاما إلهيا من البشر، نتيجة أفعالهم الفاسدة، وحدث أن أشعلت قصيدته الخلاف مع الفيلسوف الألماني لايبنتز، صاحب الفلسفة التفاؤلية وهاجم كتابه الشهير الصادر عام 1710 بعنوان طويل هو: “مقالات عن علم الربوبية الخاصة بالطيبة الإلهية والحرية البشرية وأصل الشر” معتبرا أنه فيلسوف مغفل.
شاعر النيل حافظ إبراهيم -1872-1932-تأثر تأثرا كبيرا بالزلزال الذي ضرب مدينة “مسينا” الإيطالية، وكتب قصيدة جاء في بعض أبياتها:
ما لمسين عوجلت في صباها/ ودعاها من الردى داعيان
خسفت، ثم أغرقت، ثم بادت/ قضى الأمر كله في ثواني
وأتى أمرها فأضحت كأن لم/ تكُ بالأمس زينة البلدان.
شاعر العراق، بدر شاكر السياب-1926-1964، وضع كتابه “المعبد الغريق” وفيه تأثر واضح بغرق معبد بوذي في شبه جزيرة ملايو في بحيرة شيني، إثر انفجار بركاني خلخل المدينة كلها وأغرقها بالرماد، ولا ريب بأن طبيعة إبراهيم وحساسيته العالية، وحياته التي افتقد فيها الحب، وجدت في هذا الحدث ما يوائم روحه الملتاعة وحياته القصيرة.
ومن “المعبد الغريق” نورد:
طواهُ الماءُ في غَلَسِ البحيرة بين أحراش مبعثرة وأدغالِ.
هنالك قبل ألف، حين مجَّ لظاه من سَقَرِ،
فمٌ يتفتَّح البرُكْان عنه فتنفض الحُمَّى
قرارة كل ما في الواد من حَجَرٍ على حجرِ،
تفجَّر باللظى رَحِمُ البحيرة ينثر الأسماكَ والدمَ، مُرْغِيًا سُمَّا،
وقرَّ عليه كلكلٍ معبد عصفتْ به الحمَّى.
بالتأكيد هناك العديد من الأدباء في العالم، الذين تناولوا هذا الموضوع، وإن كان للسينما القسط الوافر منه، ولا ريب بأن الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد منذ مدة قريبة، لن يمر وقوعه مرورا عابرا على أهل الأدب، بل سيكون لهم فيه، ما يجعل تلك الكارثة، خالدة أبدا.
تمّام بركات