مجتمع

خيرات الأرض تمنح الريفيات طبقهاً ملئ بالمحبة

اللاذقية – فداء شاهين

تحوّلت سهرات ليالي الشتاء التي كانت تقضيها نساء الريف في الساحل السوري أيام زمان مع جاراتها إلى لقاء نهاري في هذه الأيام من فصل الشتاء للخروج إلى أحضان الطبيعة والبحث عن الحشائش البرية “السليق” التي نبتت بعد هطل الأمطار في البساتين والسفوح الجبلية، التي يعدّونها نعمة من الله تعالى بعيدة عن لعنة الاحتكار وطمع التجار وارتفاع الأسعار التي كبّلت معيشتهم.

في ذلك الريف تتفق النساء فيما بينهن كل يومين أو أكثر على أن تخبر إحداهن الأخريات بعد مراقبتها الطبيعة بأنها شاهدت أحد أنواع الحشائش نمى فوق الأرض وتؤكد أن الموسم قد حان للخروج وقطاف الحشائش، وقبل الخروج تجتمع النسوة على شرب القهوة الصباحية ويتبادلن الأخبار والأحاديث عن نكهات حشائش الطبيعة ولذتها وفوائدها، وعن موسم العام الذي قبله والكميات التي قطفوها ووفّروا فيها شراء الغذاء المكلف جداً هذه الأيام فلا توجد عائلة إلا وتحبّ تناولها، إذ تقضي النساء جلّ نهارهن في البرية، بينما تتفرّغ لإعداد الطعام لأسرتها قبل حلول العصر فتعود وبحوزتها عدة طبخات تكفيها وزميلاتها عدة أيام. وخروج النساء الريفيات مع بعضهن لا يصحّ مع الجميع، فكل جارة تتفق مع عدد معيّن من النساء اللاتي تتوافق معهن وتحبّهن، وفي حال خرجت من دون إعلام “الشلة” أو الفريق الذي تخرج معه عادة فإن ذلك سيثير الحساسيات.

الحيلة والفتيلة 

هذه الحشائش الخضراء التي تنبت في البساتين والسفوح “السليق أو حشائش الشتاء” أصبحت وجباتٍ غذائيةً للعائلات يتم طهوها بعدة طرق، ومع أن هذا ليس جديداً على نساء الأرياف في الساحل اللواتي يعتبرن ذلك إحدى طرائق الترفيه والتخفيف من أثقال الحياة، إلا أنها زادت بكثرة خلال سنوات الحرب لتتشارك نساء الأرياف مع نساء المدن في قطاف الحشائش التي أصبحت هي الأخرى تبحث عن الحشائش بأنواعها المختلفة التي تعدّ من الطعام المفضّل لديهم.

تضع أمّ علي “الكيس تحت إبطها والسكين بيدها اليمنى كغيرها من النساء اللواتي يرافقنها إلى الحقول لقطاف القريصة والخبيزة ولسان الثور من بساتين خربة الجوزية و الدروقيات بريف اللاذقية التي يبدأ بها الموسم، صوّبت عينيها على نبتة قريصة غرزت السكين تحت جزء من الجذر ورفعته بخفة وعناية، نفضته من بقايا التراب الذي لصق به ووضعته في الكيس، وتعيد العملية في حال وقع نظرها على نوع آخر من الخبيزة أو لسان الثور، فالمنزل الذي يقع في ريف اللاذقية الشمالي القرية كما تروي ينتظرها أن تجلب معها عدّة طبخات من حشائش الشتاء الطيبة اللذيذة تكفيه عدة أيام، فهي ستغنيها عن شراء طبخات من المحال التي أصبحت مكلفة جداً هذه الأيام. فالمعيشة كما تقول لم تعُد تحتمل، والخضار والفواكه التي تُزرع جميعها محلياً متوفرة، ولكن بأسعار عالية لا تستطيع العائلة شراءها، فدخل العائلة سواء التي تعمل بالزراعة أم الموظفة لا يمكّنها من الشراء، وخاصة أن أم علي تُفاجأ كغيرها بالزيادة التدريجية اليومية للأسعار، (معقول نحنا بلد زراعي وما فينا نشتري الخضرة، وإذا بدنا نشتري ما يعادل الدولار وقت بدنا نبيع منتجاتنا بأرخص الأسعار)، ولا يوجد في الأرياف دخل غير الزراعة التي لم تعُد تجدي نفعاً، فالحمضيات أسعارها منخفضة عند البيع للتجار بينما تكون مرتفعة في المحافظات الأخرى، وزراعتها أصبحت خاسرة ولا يمكن استبدالها بزراعات أخرى، وحتى ذلك يحتاج إلى تكاليف.

سنين الجوع

وتحكي والحسرة ترتسم على وجهها وهي تجاوزت الثامنة والثلاثين من العمر وتعمل كموظفة  لا يكاد يكفي راتبها الشهري بضعة أيام في سبيل تلبية احتياجات أولادها،عن الأيام التي وصلت إليها البلاد وحالتهم الصعبة كغيرها من نساء الأرياف البسيطات، ففي هذه الفترات يستعيضون عن شراء الفروج واللحم اللذين حلّقت أسعارهما عالياً بالبحث عن فطر الهليون المعروف لديهن بأنه لحم بلا عظم، تتفنّن بإعداده، وطالما كان عماد موائد الفلاحين الفقراء قديماً، وعاد حالياً إلى موائدنا بكثرة، وهذه الحشائش لا تنبت في جميع المناطق الريفية، فنبات القريصة ينمو في الأراضي الجبلية المرتفعة بين أشجار الزيتون وفي المناطق الحراجية بين أشجار الصنوبر، أما لبيس القطة فتنمو في جميع الأراضي المشجرة بالزيتون، وقسم بسيط بين أشجار الحمضيات، في حين تنمو حشائش الخبيزة في الأراضي الرطبة والسهلية على عكس سابقاتها من الحشائش.

 اقتربت منا إحدى أقارب أم علي التي أتت من مدينة اللاذقية لترافق أقاربها في قطاف الحشائش من البراري وهي في الستين من العمر تُدعى أم تمام ، لم تتخلَّ رغم تقدّمها في العمر وبعد المسافة عن المناطق التي تتجه إليها هذه الأيام الجبال بريف اللاذقية الشمالي لقطاف القريصة، ولبيسة القطة، وأبو الغصون، والهنيدبة، والسليقة، عن تناول حشائش الشتاء واستذكرت حكايات وقصص الجدات عن سنة الجوع التي وقعت أيام الاحتلال الفرنسي، فكانت الأرض في الساحل السوري هي الطبق, “وكانوا يدوّروا متل ما عم نساوي على الأعشاب والحشايش حتى قدام ما تزهر منها السلبين والخبيزة والحميضة واللوف والهنيدبة والقريصة ولبيسة القطة ولسين التور وغيرا وغيراتا، وبعدها اجى الجوع بسنة الأربعة وأربعين, بسنة المخلوطة صارت كل الضيعة تاكل مخلوطة (خبز مخلوطة وعشتفون)، وهالسنين الجوع رجعت ع الناس والفرق بين الماضي والحاضر بأنه حالياً أغلب المواد والخضار المحلية متوفرة”، ولكن لا تملك العائلات المال الكافي للشراء، إضافة إلى سعرها الباهظ، ونعمة الحشائش البرية التي يبدأ موسمها بنهاية شهر تشرين الثاني من كل عام وتنتهي في أوائل نيسان، هي بديل للتخفيف من شراء الخضار المكلفة جداً، وتكمل أم تمام: “بدّي حاول اقطف أكبر كمية من الأعشاب لحتى تكفيني أسبوع طبخ ووفر شوية مشترى من المحال التجارية، حتى يلي ساكنين بالريف أرحم لسه من المدينة لأن عندن شوية حطب يطبخوا عليه أما نحنا بدنا نداري الغاز منشان ما نصرف كتير وننقطع منو”.

أما أم محمد الستينية من العمر التي حفرت السنين والأعمال الزراعية القاسية في يديها الخشنتين، وخاصة أن النساء في الريف تعملن أسوة بالرجال وربما أكثر، فقد تحدّثت بغضب عن الواقع الذي تعيشه وتخلّيها عن تربية الأبقار لعدم قدرتها على الاستمرار وشراء الأعلاف التي ترتفع يومياً وأصبحت تشتري مشتقات الحليب من السوق، وما إن انتهت من العمل بالأجرة في قطاف الزيتون حتى بدأت حالياً بالعمل في قص ثمار البرتقال عند أحد التجار وتتقاضى يومية مقابل ذلك، “وإذا بدنا ناكل لحمة منجيبها ع فترات طويلة وأوقات، ننتظر الأعياد التي تقام في الساحل، فالقرى رغم ارتفاع الأسعار ما زالوا يتمسّكون في إجراء العيد، ولكن بعدد ذبائح قليل مقارنة بأيام ما قبل الحرب، ويطبخوا البرغل مع اللحم، وما في أطيب من لقمة”.

 الهليون لحم بلا عظم

ويمكن للإنسان حسب أم محمد أن يعيش على فطر الهليون، فهو أقوى من اللحم وهو غذاء تام، وفوائده كثيرة تقي من الأمراض، وقد كان مصدراً لغذاء الإنسان منذ عهود طويلة، “وعم ندوّر عليه لنحوّشه” من جبل أبو خليل الذي ينمو فيه بكثرة، وهذه الفترة هي أوان نموّه من السنة فرائحته وطعمه كاللحم تماماً، وتتفنّن نساء الأرياف في طهي الحشائش وهي تعدّ من الأطباق التي تدعو الأقارب والمعارف إلى تناولها، ولاسيما التي يتم صنعها بالتعاون بين بعضهم، فطائر على التنور والكبة، فيتم تقديم الفطائر المحشوّة بالحشائش للأسرة والضيوف، وهي تغني عن شراء الفروج أو اللحمة التي أصبح سعر الكيلوغرام منها مكلفاً جداً، إذ إن هناك أولوياتٍ في المنزل ولا يمكن شراء الفروج بشكل دائم. وفي حال اتفقت النساء كما تقول أم محمد بعد الانتهاء من قطاف الحشائش على صناعة فطائر (القريصة ولبيسة القطة والسلق وغيرها) على التنور، يتم التعاون والتجهيز ليوم الخبز على التنور، وقد ارتبطت أعمال الخبز بالنساء ولم يكن من عادة الرجال أن يخبزوا على التنور, بخلاف حالهم في أفران المدينة, وتجثو على المصطبة (المضلة) واحدة أو أكثر من البنات والنساء اللواتي يتعاونّ على تقريص الفطائر ومناولتها للصقها على جدران التنور بوساطة الكارة، وعند الانتهاء تحصل كل امرأة على حصة تكفيها عدة أيام من الفطائر اللذيذة، كما تغتنم النساء فرصة اللقاء على التنور لتفرغ كل منهن ما في جعبتها من أحاديث علنية وسرية وما لديها من مستجدات.

 السمسار هو الأقوى 

وقاطعتها أم علي لتقول: والله حياتنا صارت صعبة والتاجر في سوق الهال أصبح شريك الفلاحين في البستان من خلال “مهنة السمسرة” التي تخدمه فقط لأنه يجني الأرباح أضعافاً مضاعفة وهو جالس خلف مكتبه بالمدينة، مقابل ذلك يجني الفلاح نسبة قليلة فقط من تكاليف زراعة الحمضيات أو غيرها، وهذا ما سبّب هجرة الكثيرين زراعة الحمضيات، إضافة إلى أنهم يتلاعبون بالفلاحين، فكل عام يرفعون سعر صنف واحد من الحمضيات، ويقوم الفلاح بالتركيز عليه أكثر من غيره ظنّاً منه أنه سيبقى محافظاً على السعر العالي، ليُفاجأ بعد أكثر من عام أن سعر هذا الصنف قد انخفض كثيراً مقابل رفع صنف آخر، والحجة الحاضرة دائماً أن السوق التصديرية هي التي تطلب الصنف، وبالتالي يرتفع سعره، وحتى هذه اللعبة أصبح الفلاح على دراية بها، ولكن لا حول له ولا قوة، علماً أن التاجر في سوق الهال لا يخسر أبدأ، فدائماً يربح دون جهد أو عناء، بينما الفلاح يخسر ويصبح مديناً وينتظر الموسم حتى يبيع محصوله ولا أحد ينصفه، وخلال الحرب هو الذي قدّم المساعدة باستمراره في الزراعة رغم كل الظروف.

وتكمل أم علي: كل فلاح لديه معاناته، ففلاح الحمضيات له معاناته، وفلاح الفواكه كذلك الأمر، وحالياً بعد تحسّن أسعار زيت الزيتون توجّهنا نحو العناية بالزيتون وقطع أشجار الحمضيات والفواكه واستبدالها بأشجار الزيتون، ولا يختلف الحال بالنسبة لمربّي الأبقار حيث كان أغلب البيوت في القرى لديه أبقار، أما حالياً فقد أصبح من النادر وجودها في القرى إلا عند عدد قليل لارتفاع تكاليف تربيتها، والحال بالنسبة إلى سمسار البقر كذلك، فهو شريك المربّي من خلال السمسرة، إذ يوجد عدد من تجار الأبقار يتفقون ويتآمرون فيما بينهم على المربّين في القرى، وعندما يسمع أحد التجار بأن فلاحة ستبيع بقرة “وتكون مضطرّة” يدفع لها سعراً قليلاً جداً ويخبر التجار الباقين بأن يتردّدوا عليها ويدفعوا سعراً أقل ممّا دفعه حتى يجبرها على البيع بسعر قليل لا يحقّق الربح لها، بينما يربح التاجر في يوم أو يومين أكثر من المربية بأضعاف.

وتحدث أحد التجار في سوق الهال بمحافظة اللاذقية – فضل عدم ذكر اسمه-  بأن قوانين السمسرة وأسعار الحمضيات في سوق الهال تحدّد من نقابة سوق الهال التي تعطي صلاحية للتجار من أجل التسعير.