سياسةعربي

قمة العرب وتحديات النظام العالمي الجديد

جاءت القمة العربية في دورتها الثانية والثلاثون التي عقدت في مدينة جدة السعودية بارقة أملٍ جديدة لإحداث نقلة نوعية في العمل العربي المشترك، فبالرغم من الضغوط السياسية الغربية والمحاولات المستمرة لشق الصف العربي إلا أنَّ القمة نجحت وبالمقاييس كافة على توحيد الصف العربي لتواكب التحولات الكبرى في العالم سيما وأنَّ المتغيرات الدولية الجديدة لا تعترف بالدول فرادى، أو بالتكتلات الهشة وهو ما سعت جامعة الدول العربية من خلال الخطابات التي أكدَّ فيها القادة العرب على وحدة الصف العربي والعمل لمستقبل المنطقة وتنميتها بعيداً عن التجاذبات الدولية والسعي الجاد لإبعاد الصراعات وحروب الوكالة عن الأرض العربية خصوصاً بعد عقدٍ ونيف من ربيع دموي لم يجلب سوى التفكك والعار. فكان إعلان جدة والمؤتمر الصحفي للأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط ولوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان تأكيداً على دخول العالم العربي عصر التكتلات الكبرى من بابه الواسع، هذا التكتل الذي أعلن وعلى الملأ استقلاليته وعدم سماحه لأي كان التدخل في شؤونه وجاء ذلك على لسان السيد أحمد أبو الغيط (علينا العمل بمعزل عن رغبة القوى الخارجية) وأكدَّ على دور سورية الهام والمحوري في العمل العربي المشترك وعودتها لشغل مقعدها في الجامعة العربية أمر خاص بالشأن العربي فهي عضو مؤسس، فكانت القمة العربية وللمرة الأولى منذ عقود قمة الرفض العربي للإملاءات الخارجية والغربية، فكيف لا تكون كذلك وسورية عادت للجامعة العربية، وقد أشار السيد الرئيس بشار الأسد إلى أنَّ سورية قلب العروبة النابض وفي قلبها.

لقد رسمت القمة العربية في مدينة جدة السعودية معالم الطريق وخطة مستقبلية لإنماء المنطقة العربية من خلال التنمية وبناء البشر، فالإصلاح حاجة ملحة، وقد قامت المملكة العربية السعودية بوضع رؤية جادة سواء في دورها الإقليمي أم على الصعيد الدولي مختلف عما ساد سابقاً، وكان صوت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عالياً في وجه الاملاءات الأمريكية التي مازالت وحتى اللحظة تسعى لعرقلة عودة سورية للعمل العربي المشترك، فصدمة العودة لشغل مقعدها في الجامعة العربية مازالت تعلو أصداؤه في أروقة البيت البيض والكونجرس الذي عمل وعبر لجنة العلاقات الخارجية على تمرير مشروع قانون بفرض عقوبات على الدول المطبعة مع سورية، وهو سيلقى رفضاً عربياً لمثل هذه القوانين أحادية الجانب والتي ستتصدى للقرار الأمريكي بفعل التكتل العربي حيث إشارة من السيد أحمد أبو الغيط بأنَّ الدول العربية سترفض التدخل بشؤونها فضلاً عن حديثه عن مؤتمر مع دول الاتحاد الأوروبي كل ذلك وفي حال التضامن العربي مع سورية سيفرغ القوانين الأمريكية من مضمونها وستجد نفسها بمفردها تفرض القرارات التي تعاقب من خلالها لتكون هي المحاصرة الوحيدة بفعل قراراتها الاعتباطية واستمرارية دعمها للجماعات المتطرفة في سورية التي مازالت تراهن عليها كل ذلك يشبه اللعب في الوقت بدل الضائع من قبل شخصية مهتزة يمكن توصيف استراتيجيتها وللمرة الأولى في السياسة الأمريكية بأنَّها استراتيجية الزهايمر، وكان أول المنددين بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي عبر عن استقلالية القرار الأوروبي عن الأمريكي خلال زيارته لبكين ودعمه للمبادرة الصينية للحل في أوكرانيا.

وبالمقابل يمكن توصيف زيارة وزيرة الخارجية الألمانية للمنطقة بأنها محاولة أخيرة لعرقلة التضامن العربي ولحفظ ماء وجه الدول الغربية خصوصاً الهزيمة التي مني بها على يد الشعب السوري، فالغطرسة تدفعهم لعدم الاعتراف بالهزيمة واستمرارهم في السياسات المتبناة منذ قرنين سيسهم في تراجع نفوذهم في المنطقة التي سئمت حروبهم الممتدة من حرب القرم /1853/ وحتى يومنا عبر المستثمر الغربي الأخير المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية لاستنزاف المنطقة والقوى الإقليمية عبر عملية الفوضى الخلاقة التي انقلبت على صانعيها. فالسعودية ومع وصول جيل جديد للسلطة تنتهج المذهب الواقعي في العلاقات الدولية وفي ظل التحولات الكبرى رفض الأمير محمد بن سلمان محاولات الضغط الأمريكي للاصطفاف معها لدعم أوكرانيا ضد روسيا من خلال التلاعب بأسعار النفط بل على العكس لعب دوراً مستقلا ومحورياً على الصعيد الدولي عبر بناء جسور الثقة مع روسيا ولم يتوقف عند هذا الحد بل لمس ظهور العملاق الصيني وعمل على التنسيق معه ونسج العلاقات البناءة وهو ما ساهم بلعب الصين دوراً دبلوماسيا جديداً أدت للمصالحة السعودية- الإيرانية التي أوقفت طبول حرب مذهبية في المنطقة لا تخدم مصلحة أحد من أبنائها ، وقد يكون هنا في قادم الأيام مبادرة صينية- سعودية ويمكن لسورية لعب دور فيها للحل في أوكرانيا. فنقطة التحول الكبرى كانت عبر القراءة الجيوستراتيجية لمكانة منطقتنا وهو ما أسهم في التقارب السوري- السعودي حيث عادت القوى العربية التقليدية لممارسة دورها العروبي وهو ما تحدث عنه غير مرة السيد الرئيس بشار الأسد في لقاءاته خلال السنوات العشر الماضية وأكدَّ من خلالها على أهمية تعزيز التكتل العربي في كلمته أمام القمة العربية من خلال تعديل ميثاق الجامعة العربية وهيئاتها لتتلائم مع تحديات العصر.

كل ذلك هو رد فعل لفعل سابق استمر لقرون عماده الأساسي العنجهية الغربية ومن ثم الأمريكية في العالم، واليوم نحن أمام عالم متعدد الأقطاب والدول العربية تدرك أنَّها هي من تقرر مستقبلها، فقراراتها نابعة من مصلحة ذاتية وجودية وليس من مصلحة غربية استعمارية هذه المصلحة التي عملت وتحت ستار نشر الديمقراطية على نشر الحروب خدمة لرخاء ونماء الدول الغربية وإفراغ لثروات الوطن العربي خدمة للتنمية في دول الأطلسي. فالتنمية اليوم وغداً كما كانت في الماضي من حق الشعوب العربية، ولن تقبل دولنا العربية بعد اليوم تنمية الغرب على حساب الدول العربية والمواطن العربي أينما كان من المحيط إلى الخليج مهما كانت المبررات والمسوغات.

إنَّها قمة كل العرب وقمة الدخول في عصر التكتلات الكبرى من خلال تلاقي الفكر الاستراتيجي المدافع عن الأمة العربية والساعي لدفع المشاريع العربية الكبرى للأمام سيما وأنَّ لدينا فكر استراتيجي طرح أفكاراً كبرى، إنَّه التلاقي بين البحار الخمس التي طرحها السيد الرئيس بشار الأسد والاتحاد الأوروبي الجديد في منطقتنا العربية كما عبر عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وغيرها من الأفكار التي ستعيد العرب للعب دورهم الحضاري في العالم.

مطانيوس الصفدي