هل الحزب من الرموز الوطنية؟
د عبداللطيف عمران
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يبرز سؤال أكثر ضرورة بالإجابة وهو: ما هي الرموز الوطنية، وهل هي قوانين أم أعراف؟ وهو سؤال لم يُتفق على الإجابة عنه في حوار بين مجموعة من الحزبيين والأكاديميين، ورجال القانون، فقد تراوحت الإجابات وتفاوتت بين الأطياف الثلاثة وذلك لأسباب مختلفة، وإن كانت متقاربة في الهدف.
فهناك دول عربية وغير عربية أقرّ قانونها بوضوح، وحصرَ رموزها الوطنية، وهناك دول أخرى تركت الأمر للأعراف والتقاليد، وللضرورات المرحلية.
في سورية، يبدو أن مسألة الرموز الوطنية من حيث الفهم العام تقع في ميدان غير مستقر بعد، مثلها مثل مسألتي الهوية والمواطنة، إذ إن القانون السوري لم يحسم الأمر فيها بشكل واضح، لا في مواد الدستور، ولا في قانون العقوبات السوري وتعديلاته، بينما مسألة السيادة هي أكثر وضوحاً في الدستور وفي القانون، فبقيت مسألة الرموز الوطنية واضحة فقط في معرض النص القانوني على الحماية الجزائية لها من مثل النص على عدم جواز الإساءة إلى… أو النيل من هيبة… ويبدو أن الأمر تُرك لتقدير القاضي.
وهناك اليوم اجتهادات وجهود وطنية ومهنية للانطلاق من ترك تحديد هذه الرموز في ميدان الأعراف والتقاليد إلى ميدان النص الدستوري، والقانوني أيضاً، وهذه جهود لم تُثمر بعد، وهي ضرورية، وإن كان هناك شبه اتفاق مبدئي، ومن خلال المتعارف عليه في أغلب الدول من أن المواطنين والمجتمع والمؤسسات والدولة يرون أن دائرة هذه الرموز تضم: مقام الرئاسة – العلم الوطني – النشيد الوطني – شعار الدولة – وأحياناً: الجيش – العاصمة- العملة الوطنية.
مثلاً في المملكة العربية السعودية تم تحديد هذه الرموز بالتفصيل والتوضيح لكل منها، لكن تحت عنوان: من أهم هذه الرموز، وهي: شعار المملكة – علمها – نشيدها – يومها الوطني – عملتها. بينما الأمر مثلاً في موريتانيا يختلف، فقد شهد صدور (قانون حماية الرموز الوطنية) في أواخر 2021 ردود فعل علنية، وصدى رأي عام ليس ضيقاً رأى في هذا القانون تهديداً لحرية التعبير، وتحديداً على شبكات التواصل الاجتماعي.
في مطلق الأحوال، هناك في سورية وفي غيرها رأي عام مفاده أن المؤسسات العريقة التي أدّت وتؤدي دوراً وطنياً جمعياً يحفظ حقوق ومصير الفرد والمجتمع والدولة، وتصون مصالح الوطن وقضايا الأمة، ويؤدي غيابها إلى خلل في هذه الحقوق والمصالح والقضايا، هي من الرموز الوطنية، وهنا تكون الإجابة عن سؤال موقع الحزب في هذا السياق.
في سورية عدة أحزاب وطنية، ووفق التجربة الديمقراطية الحقيقية من حيث الأكثرية، والطاقة الانتخابية، والكتلة البرلمانية، والقاعدتين التنظيمية والشعبية، لذلك فالحزب المقصود في هذا السؤال هو حزب البعث العربي الاشتراكي.
هذه المقدمة ليست أبداً تمهيداً للمطالبة القانونية أو الدستورية بالنص على أن البعث من الرموز الوطنية في البلاد، إذ نعرف أن المادة الثامنة من الدستور السابق غابت (انتخابياً) من الدستور الراهن، لكننا بالمقابل نمتلك ما يؤكد أن استهداف البعث كمشروع، وكهدف هو استهداف للوطن والأمة.
في هذه الزاوية، وفي غيرها، كتب البعثيون غير قليل من نقد تجربة البعث، ومن حاجته المستدامة للمراجعة النقدية التي هي عاصم له من الأخطاء التي طالما اعترف بها عبر تاريخه: التنظيمية منها والفكرية والاستراتيجية أيضاً.. ولطالما تحمّل البعث أخطاء كوادره، وأخطاء غيرهم، لكنه بقي وسيبقى صمام الأمان للفسيفساء السورية غنية الألوان، وهو عماد بناء المجتمع السياسي الوطني المنشود في هذه البلاد، وفي هذه المرحلة الصعبة من تاريخها.
وما نشهده اليوم من مهاترات، واجتراء، ونكران وخروج عن القيم والتقاليد الوطنية والعروبية الأصيلة، ومما يجب الترفّع عن الإشارة إليه، هو لا يستهدف البعث وحده كتنظيم سياسي بقدر ما يستهدف الحالة الوطنية والعروبية العريقة والراسخة في سورية، وإذا كان للبعث نشيده، وعلمه، وشعاره، وهدفه، فهذا جميعه في خدمة الرموز الوطنية والقومية للشعب والدولة في سورية من عقائدية للمجتمع والدولة والجيش.
فقد رافق حزب البعث الدولة السورية منذ نشأتها تقريباً، وخاض معها نضالها من أجل الاستقلال، وتطابق تاريخها الحديث مع تاريخ نضاله السياسي والاجتماعي والإيديولوجي. وكان دائماً المعبر عن هوية الشعب السوري في انتمائه (لعروبته الحضارية)، وفي تمسكه بالثوابت الوطنية والقومية، وفي إيمانه بقيم العدالة والمساواة والسيادة، ما استعدى عليه كل القوى الاستعمارية والرجعية، في الداخل والخارج على حد سواء.
لم يكن البعث يوماً ما حركة عنصرية أو شوفينية، وعلى العكس، فقد كان من الأحزاب القليلة في العالم التي قامت على فكر تحرري عابر للأديان وللطوائف والطبقات، بل والانتماءات الإثنية، حيث يضم في هيكليته التنظيمية كل العناصر التي شكلت وتشكل الطيف السوري المعاصر، وتمكن من صياغة هوية وطنية أصيلة وقوية وغنية ومصدر فخر واعتزاز لكل أبنائها، وصنع لها سنوات مجدها
وحضورها العربي والإقليمي والدولي، وهو اليوم يقاتل في سبيل تأصيل هذا الحضور من خلال تدشين التحولات العالمية الجديدة.
التحق بالبعث، على امتداد تاريخه الطويل، العمال والفلاحون، الفقراء والأغنياء، الكادحون وأبناء الطبقة الوسطى، أبناء الأرياف وأبناء المدن، العسكريون والمدنيون، السياسيون الوطنيون والمثقفون والأدباء والأكاديميون والفلاسفة، الثوريون والمحافظون التقدميون، وكان البوتقة التي صنعت مضمون الوحدة الوطنية السورية، والطليعة التقدمية التي أعطت لهذا البلد وهجه وفرادته بين الشعوب والأمم. وإذا كان اليوم يعاني من المؤامرات والحروب المعلنة وغير المعلنة فلأنه هناك من يريد «تدفيعه» غالياً ثمن إنجازاته وممانعته ودعمه للمقاومة ودفاعه عن حقوق وطنه وأمته. إن البعث اليوم في تصديه لمؤامرات الداخل والخارج إنما يدفع «فواتير قديمة ومتأخرة» لطالما سددها إنجازات ومواقف في سبيل مصالح شعبه وقضايا الوطن والأمة. وهذا ما هو واضح بكل أبعاده في حوارات وكلمات ومواقف الرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد.