تاريخية القمّة الثنائية
د. عبد اللطيف عمران
في العلاقات الاستراتيجية الواعدة دائماً بعدان: هدف مستقبلي، وأساس تاريخي، ومن هنا فقد لقي السيد الرئيس بشار الأسد حفاوة بالغة في الصين، وجرى استقباله في مطار خانجو كرجل دولة وصديق عزيز يحظى بكل ما يليق به من الاحترام والتقدير . إذ فتحت الزيارة صفحة جديدة من العلاقات السورية الصينية، وفي مرحلة بالغة الدقة والحساسية على الصعيدين الإقليمي والدولي. وبالنسبة لسورية التي تتطلع للانطلاق بعملية إعادة الإعمار، فإن الانتقال بالعلاقات إلى المستوى الاستراتيجي، بعد أكثر من عام على الانضمام رسمياً إلى مبادرة الحزام والطريق، يعني بالتوازي استعداد بكين لتحمل المخاطرة وعدم تهيب أي إمكانية لإحداث خرق في جدار الحصار والعقوبات الغربية اللاشرعية، ومن الانطلاق إلى آفاق واعدة ومفتوحة للتعاون الثنائي بين البلدين، خاصةً وأن الصين تعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأن مدينة خانجو تُعدّ مركزاً للتكنولوجيا وموطناً لعملاق التجارة الإلكترونية الصيني علي بابا. أما بالنسبة للصين التي بدأ إحباطها من السياسات الغربية يتحول إلى شعور متزايد ومتواصل أيضاً بالتهديد، ويُعزز لديها الرغبة في التحدي العلني للسياسات الأمريكية، ويقوى رفضها لمحاولات التطويق أو التهميش، خاصةً في مناطق شرق وغرب آسيا، فإن سورية هي الصديق والحليف الذي “أبعدته” سنوات الحرب، وها هو يعود الآن بكل قوة في خضم عملية إعادة الإعمار المعنوي والمادي التي لا يمكن أن تنطلق بكل زخمها إلا بمشاركة الأصدقاء والحلفاء التاريخيين. واليوم نستطيع القول بأنه يمكن تحويل ما بين البلدين من اتفاقات إلى واقع ملموس ومنجز، فالكلمات المتبادلة بين الرئيسين الأسد وجين بينغ خلال اجتماع القمة، والتصريحات القوية للرئيس الصيني تكشف عن تصميم صيني غير مسبوق على تنفيذ الاتفاقات التي تم التوقيع عليها، وتؤكد أن التعاون الاقتصادي بين البلدين ستتم ترجمته إلى مشاريع فعلية وواعدة على الأرض، وفي إطار رؤية جديدة ومشتركة، بين الجانبين السوري والصيني، للمسرح الإقليمي والعالمي، فالعلاقات الشرق أوسطية والدولية تسجل مستجدات متسارعة، و”القصة” الآن تتجاوز مجرد حصول سورية على الاستثمارات وعلى الدعم المالي، حيث تشغل سورية أهمية استراتيجية بالنسبة للصين، وهي عقدة الممرات الاقتصادية الممتدة عبر آسيا إلى أوروبا، والسياسات الأمريكية تجاه الصين تأخذ اليوم شكل تفريغ الاتفاقات الموقعة والمتوقعة مع عدد من دول العالم، ما يجعل من هذه القمة ضرورة وأهمية في سياق التحدي والمواجهة غير العسكرية.
… وكما يُقال، لا يوجد اجتهاد في معرض النص، فقد كانت العبارات التي قِيلت في الكلمتين المتبادلتين بين الرئيسين الأسد وجين بينغ، وخلال دقائق قليلة معدودة، هي أسطع تعبير وأوجزه عن الأبعاد الاستراتيجية الكبرى التي تفصح عنها، وتضمرها هذه القمّة، بما سبقها، وخلالها، وبما سيليها في قادم الأيام. كلمتان في حيّز عدد المفردات مختصرتان، لكنهما في المعاني والأبعاد والأهداف تقعان في الميدان الاستراتيجي على المستويات المحلية والإقليمية والدولية في حقول دلالية غنية واسعة مترامية الأطراف، تتكافآن وتتكاملان في مجالات: الحقوق والواجبات، الأخلاق والأهداف، الواقع والمصير، القوة والقوة الناعمة، المواجهة والاستقرار…
ولا شك في أن هذا التكافؤ والتكامل الساطعين، لن يتركا مجالاً واسعاً للتحليل والاجتهاد والتأويل أمام المتابعين والمحللين والمهتمين، والمتربصين أيضاً، لأنه يصدر عن حق، وعن قوة أيضاً، ظهرا مع بداية كلمة الرئيس الصيني معتبراً أن القمة: (حدث مفصلي في تاريخ العلاقات بين البلدين في مواجهة الأوضاع الدولية المفعمة بعوامل عدم الاستقرار… وعلاقات صداقة تاريخية… ندعم بشكل ثابت جهود سورية ضدّ التدخل الخارجي). كما ظهرا أيضاً مع الترتيبات المسبقة للقمّة ولزيارة السيد الرئيس بشار الأسد والسيدة الأولى أسماء الأسد بما فيها من مراسم ومظاهر الاحتفاء والترحيب واللباقة واللياقة الرسمية والشعبية… ومن ذلك المعاني الكبرى والرسالة غير المعهودة التي هي أكثر من سياسية لإرسال الطائرة الصينية إلى دمشق.
وكانت كلمة السيد الرئيس بشار الأسد في القمة استحقاقاً جلياً وإلقاً يعبر عن تاريخية هذه القمة: (المهمة بتوقيتها وظروفها.. فالصين تقف مع القضايا العادلة للشعوب منطلقة من المبادئ القانونية والإنسانية والأخلاقية واحترام إرادة الشعوب ونبذ الإرهاب والتي كان لها دور كبير في تخفيف آثار الحرب على سورية… فالصين دولة كبرى لكنها لم تفقد إنسانيتها كغيرها.
كلمة الرئيس الأسد ترمي إلى قيمٍ سامية وراسخة في السياسة الدولية، وإلى أن الدول الكبرى أو العظمى، تكمن عظمتها في الجوانب الإنسانية والأخلاقية والقانونية، وليس في الغطرسة والاحتلال والعقوبات والحصار ودعم التوتر والإرهاب الذي هو ليس هو من العظمة في شيء: ( لذلك يجب أن نواجه القوة العسكرية بمبدأ القوة الناعمة المبنية على الأخلاق والتعاون الذي أقرته الصين)، وهنا تظهر الإشارة واضحة إلى مواجهة القوة العسكرية الغاشمة لدول – الغرب الجيوسياسي – تظن نفسها أنها ستبقى عظمى.
نعم، إنها قمة تاريخية وواعدة أكدها للحاضر والمستقبل إصدار البلدين (البيان المشترك بإقامة علاقات شراكة استراتيجية) واسعة، واضحة ومفصلة، وواعدة.