سلايدمجتمع

من وسط العتمة ينبثق شعاع.. آية بلال فراشة ذوي الهمم العالية

“لا يستسلم إلا صغار العقول، فالإنسان ما دام حياً يستطيع أن يصنع المعجزات” بهذه الكلمات عنونت الشابة آية بلال، ابنة التسعة عشر عاماً، رحلتها متحدّية إعاقتها الجسدية المتمثلة بعدم قدرتها على الحركة، وبعض الصعوبات في النطق نتيجة نقص الأكسجة عند الولادة، غير آبهة بنظرات محيط مُحبِط، ليكون الأخير محل شفقة على اعتبار أن الإنسان ما دام حياً يستطيع فعل المعجزات، فما بالك بمن خُصّ بعقل وعزيمة قوية؟.

الإعاقة بالنسبة لآية هي بالعقل وليست بالجسد، وهي اليوم طالبة في الأدب العربي ومتدرّبة في الإعلام، لديها أحلامٌ وطموحاتٌ كبيرة بأن ترى اسمها يزيّن عناوين كتب تسعى لتأليفها وتوزيعها في المكتبات لتكون تذكاراً جميلاً لدى القراء. والأمل كان سيّد القصة والصديق الدائم لآية لتصل إلى ما هي عليه اليوم، وذلك وفق ما حدثتنا به، فهي تحدّت كل العقبات التي اعترضت مسيرتها مُذ أبصرت عيناها النور، والفضل يعود لدعم والديها، وإيمانهم المطلق بقدراتها على الوصول إلى ما تصبو إليه، وأضافت: إن طموحها اليوم، أوغداً، أن تجد علاجاً للتغلب على إعاقتها، وكلّها يقين وأمل بأن هذا ليس مستحيلاً مع تطوّر عالم الطب.

وبابتسامة تخفي غصّة عميقة، تتابع آية حديثها، قائلةً: إن طريقها لم يكن معبّداً واسع الأفق كبقية أقرانها، بل كان وعراً جداً حتى بدا كسلسلة طويلة لا تنتهي، ولكن مساندة من حولها من أهل وأحبة خفّفت ثقل مشوارها فأشرقت شمس حياتها من جديد، حتى صارت مصدرَ طاقة إيجابية تبثّ الأمل في نفوس مَن حولها، ليس هذا فحسب، بل تردّ على من يتنمّر على وضعها، بقول المتنبي “وَإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ .. فَهْيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ”.

والدة آية “أم علي” تقول: لا أنكر في البداية أن الموضوع كان صعباً جداً لجهة الأوضاع المادية الضيّقة ومن جهة ثرثرة المحيط ونظرات الشفقة والاستهجان، على سبيل المثال لا الحصر “لِمَ تدرس وهي بهذه الحالة”، ولكن ثقتي المطلقة بأن آية فتاة مميزة وسيكون لها بصمتها الخاصة، جعلتني أدوس على تلك الترّهات وأرهنُ حياتي ووقتي لنور عيني “آية” ابنتي البكر التي كانت أعظم هدية لي، فمنذ أبصرت عيناها النور كنت ظلّها في كل خطوة، ولم أشعر للحظة بتأفّف أو تذمّر بل كنت كل يوم أزداد حباً وشغفاً في مواصلة رسالتي معها، لتنهل العلم وترسم طريقها الذي اختارته لنفسها، غير آبهة بأحاديث النسوة هنا وهناك ونظرات الشفقة التي يرمقنني بها، وهي تتكئ عليّ لإيصالها إلى صفوف المدرسة ومدرّجات الجامعة اليوم، فكنت أبتسم في سرّي وأشفق على تفكيرهنّ المحدود، فأنا ووالدها كنّا وسنبقى الداعم لها ما حيينا.

وعن علاجها، وإذا ما كانت هناك أيادٍ بيضاء أو جمعيات خيرية امتدّت وربّتت على كتفهما لبلسمة ألم فتاة صغيرة، توضح “أم علي” بشيء من الغصّة وحرقة القلب: حين كانت آية في الصف الثامن، علمنا من طبيبها أنها بحاجة إلى عملية ساخنة في عمودها الفقري “جنف”، ولكن تكلفتها العالية وعسر الحال وقفا عائقاً دون تحقيق ذلك، رغم طلبنا العون من جمعيات خيرية بعينها، ولكن للأسف لم يعدّونها حالة اضطرارية بل وصفوها بأنها حالة تجميلية.

خضعت آية، وفقاً لوالدتها لعدّة عمليات جراحية، وحتى اليوم لا تزال تخضع لجلسات معالجة فيزيائية في البيت، رغم التكلفة العالية وضيق الحال، متمنية أن تتحقق أمنياتها وتتلقّى ابنتها العلاج المناسب لتخطّي إعاقتها، في حال ساعد أصحاب الأيادي البيضاء وأهل الخير، وخاصة أن علاجها ممكن في بعض البلدان الأوروبية حسبما ذكر طبيبها المختص.

وخلال دردشتنا معها لفتت “أم علي” انتباهنا إلى كمّ التشجيع الذي حصدته آية من أصدقائها في الكلية وأساتذة الجامعة، وخاصة بعد رفضها الذهاب مراراً وتكراراً خشية نظرات الزملاء الذين، ربما، وفق ظن آية، يتناسون أن الله ملأ قلوب أصحاب الهمم بالحب وأهداهم الرحمة بلا حدود، وهنا تستذكر “أم علي” موقفاً أثناء مرافقتها لـ”آية” إلى الكلية، فأثناء ترجّلها من السيارة، تقول الوالدة، “رآها أحد أساتذة الجامعة والحزن والكآبة يكسوان ملامحها الطفولية، فخطا باتجاهنا ومن ثم رافقها إلى أحد مدرجات الكلية مرحّباً بها أمام زملائها الذين صفقوا لها بحرارة، فبدت كفراشة أطلقت جناحيها للحياة، لتثبت للعالم أجمع أن الإعاقة لا تمنع أحداً من الوصول بل يمنعه فقراء الأدب، ومن حينها أحبّت آية الجامعة والذهاب إليها”.

آية بلال ابنة مدينة طرطوس الساحلية استمدّت من البحر سعة صدرها وخطّت بأناملها قصصاً ونثراً وشعراً، وحصلت على شهادة فخرية مسجّلة بالبورد الأمريكي الكندي، كما اتبعت دورة مهارات إعلامية وحصلت على شهادة تقدير مصدقة من وزارة الإعلام.

وأنهت حديثها معنا بنصيحة لأقرانها من ذوي الهمم العالية بأن يعزّزوا ثقتهم بأنفسهم، وألا يسمحوا لليأس بأن يتسلل إلى أعماقهم وألا يكرهوا إعاقتهم فقد تخلق منهم أسطورة، قائلة: ولأنني لم أستسلم مرة في مواجهة أمواج البحر والبحر ذاته لم يغرقني في خوف عدم الوصول إلى الشاطئ، جئت إليه اليوم بقلبٍ يحمل كل شوائب ما مضى من خوف ويأس، وجملة: “ليته يحصل” ما أريد ورميتها في عمقهِ لتأكلها الأسماك الصغيرة فتنسى.. عرّفته بنفسي من جديد أنكر معرفته بي، لكنها الشمس شمسي سلطت الضوء عليّ للحظة.. شعرت وكأن كل شيء يُراقبني.. السماء والسحب والقوارب الصغيرة، وأن هذا البحر لي وكلهم جمهوري، فسألني البحر بعذوبة صوته من أنتِ.. قولي؟ فقلت: أنا من كنتُ بالأمس “آية حلم بعيد” ولأنني عبرت وزحفت كلّ المسافات إليه اليوم أقف بشموخ وأنا صاحبة هذا الحلم، أنا اليوم أكون الكاتبة آية بلال ولكي يصعُب عليه نسياني هذه المرة وإلى الأبد حفرتُ اسمي على حجرة أمامه ومضيت وأنا فخورة بنفسي وسعيدة بانتصاري.

 

البعث ميديا – ليندا تلي