المقاومة محور، أم ثقافة ونهج؟
د. عبد اللطيف عمران
المقاومة معجمياً في “لسان العرب، واكسفورد، ولاروس”، وغيرها من المعاجم هي عزم وثبات، وحركة وتغيير، ونزعة دفاعية وواجب. وثقافياً هي: ردة فعل جمعية ومجتمعة واعية، قبل أن تكون سلطوية أو رسمية، ضد واقع مفروض ومرفوض، وغير مشروع سواء أكان احتلالاً أم استيطاناً أم تمييزاً عنصرياً. فهي نزوع إنساني، ولكل منها خصوصيته التاريخية والوطنية والإقليمية والدولية، وهي ظاهرة ليست مرتبطة بالمطلق بالحكم وبالسيادة والسلطة إذ غالباً ما تكون شعبية، وتجلّياتها الإنسانية عصيّة على الحصر والتعداد عبر التاريخ، ولطالما احتفت بها واحتفلت الأعمال الأدبية والفنية لأنها ثقافة مضادة للهيمنة والقهر والتفرّد والاستعباد، وهناك مؤلفات عديدة تمضي أشواطاً محترمة في هذا السياق، جاذبة وفاعلة، ولعل من أهمها كتاب المفكر الفلسطيني العالمي إدوارد سعيد (الثقافة والإمبريالية(
لكن سيطرة الغرب المعرفية، ومركزيته الاستعمارية، على العقول وعلى الجغرافيا عبثت بهذا المفهوم، وعملت مراكز الأبحاث والميديا والبترودولار على شيطنته، وغرست في الأذهان أنه مرادف للإرهاب وأنه محور الشر، فحماس غزة وفق تخريفهم هي كدواعش الأطلسي، والحقيقة هي اليوم محرقة حقيقية، ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة، بل من الأهمية والضرورة، أن يوضّح الرئيس الأسد في لقائه مع الدبلوماسيين السوريين يوم 26/10/2023 في معمعان أحداث غزة أن (الغرب يعيش حالة انحطاط سياسي ليس على المستوى الأخلاقي، وإنما على المستوى الفكري- فما يحصل في غزة اليوم أعاد قضية فلسطين إلى منزلتها الحقيقية في الوجدان وفي الوعي العربي)، وكان سيادته قد أكد قبل ست سنوات في لقاء مشابه في مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين يوم 20/7/2017 كيف أن (النظام السياسي الغربي لم يعد قادراً على إنتاج رجال دولة بالرغم من أن المجتمع الغربي غني ومتقدم، لكن نظمه السياسية لا تسمح بالوصول إلى مراكز القيادة إلّا للذين يخدمون النخب المالية والاقتصادية وغيرها – لذلك نرى اليوم هذه النتائج).
إن الانتليجنسيا الصهيونية والغربية تقف اليوم أمام مشكلة، وتحدّ وانكفاء مقابل تأصيل المقاومة ثقافةً ونهجاً، وهي ترى أن محورها التقليدي لم يعد فقط فاعلاً ومحصوراً بعدد من الدول، ولا متردداً أمام ضغط الغرب لفرض (السلام مقابل السلام)، بل آخذاً في الامتداد في الوعي والوجدان الوطني العربي والعالمي، مقابل انكشاف وافتضاح استراتيجية هذه الانتليجنسيا الآخذة في التقويض والانحسار بعد هدم ثقافة الخوف والاستسلام والتطبيع التي ضعف الرهان عليها.
ليس سبب هذا السؤال في العنوان، الذي يكمّل بعضه بعضاً، ما يجري في غزة الآن، لأن الذي يجري هو في سياق صراع، وليس نزاع، لن يتوقف حتى تعود الحقوق لأصحابها، وهذه العودة ليست حلماً كما يرى بعض الخيابى واليائسين، إذ اتضح بجلاء أن ثقافة المقاومة ونهجها هما الحامل الوطني لمحورها الرسمي والشعبي جغرافياً وتاريخياً.
يُخطئ من يظن أن معركة غزة هذه بدأت في 7/10/2023، وكذلك يُخطئ من يعزلها عن سياق (مقاومة) المشروع الصهيوني المعشش في الأذهان كاستراتيجية استعمارية، استيطانية، إحلالية، إبادية من قبل وعد بلفور عام 1917، وهذه سردية ووثائقية حاضرة لا يمكن تغييبها لا في الشرق ولا في الغرب تؤكدها – مثلاً – (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) تأليف المفكر الفرنسي روجيه غارودي، ومؤلفات – إسرائيل شاحاك العديدة- وغيرهما كثير ومشهور.
فالصراع مع المشروع الصهيوني في المنطقة مستمر، وقد مضى عليه أكثر من قرن من الزمن، ولم تكن مقاومة هذا المشروع محصورة في العرب، رغم إن بعض النظام الرسمي العربي تورّط – وياللأسف – في إضعاف هذه المقاومة التي كانت أممية في صبغتها الأعم، وآية هذا التالي:
في عام 1973، وبُعيد حرب تشرين التحريرية أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 1351 (التحالف الآثم بين العنصرية والصهيونية)، وصدر بعد قرابة سنتين القرار الأهم برقم 3379 لعام 1975 الذي اعتبر (الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري وطالب جميع دول العالم بـ (مقاومة) الأيديولوجية الصهيونية التي تشكل – حسب القرار – خطراً على الأمن والسلم العالميين)، وتتالت المفاجآت من بعض النظام الرسمي العربي، فعقد السادات مع الصهاينة وبرعاية أمريكية اتفاقية كامب ديفيد الاستسلامية التطبيعية عام 1978، وبعد غزو صدام حسين الكويت وقيام تحالف دولي لتحريرها طالب الرئيس بوش الأب بإلغاء القرار 3379 لعام 1975 المساوي بين العنصرية والصهيونية فاعتبرت (إسرائيل) هذا الطلب شرطاً لمشاركتها بمؤتمر مدريد للسلام. فصدر في أواخر عام 1991 قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادم بالأغلبية رقم 86/46 بإلغاء هذه المساواة، ما أدى إلى اندماج الكيان الصهيوني في المجتمع الدولي. فكانت اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير عام 1993، ووادي عربة 1994 مع الحكومة الأردنية، ومضت الأيام والسنون ودخلنا – دون جدوى – في متاهات الدبلوماسية الروحية والاتفاقيات الابراهامية، وصولاً إلى فتح سفارات كيان الاحتلال في عدد من الأقطار العربية، ودون جدوى أيضاً، إذ تعززت المقاومة ثقافة ونهجاً وفعلاً عند الأطفال والشباب العرب في الضفة وغزة، وعلى امتداد ساحة الأمة، مسببة إحراجاً ووجوماً ومخاتلة واضطراباً للغرب وللصهاينة ولحلفائهما في المنطقة والعالم.
ومع العدوان اليوم – وقبله – ولا بد بعده – على القضايا والحقوق والأرض العربية، والقضية المركزية في الضفة الغربية وغزة يتأكّد أن الصهاينة في كيان الاحتلال وفي غيره من الغرب الجيوسياسي، بايدن: أنا صهيوني – لا يردع وحشيتهم المستمرة والمتأصلة والمتصاعدة قرار ولا اتفاق، ولا تطبيع، بل إن المقاومة هي الحل والحق والواجب.
وإذ كانت المقاومة في مرحلة من المراحل محوراً حاضراً، ناجزاً، محدداً، معروفاً، فإنها في العمق والجوهر أبعد مما هي في الواقع والمظهر، فالرأي العام الشعبي في أقطار الاتفاقيات الثلاث أعلاه لايزال وسيبقى منتصراً للمقاومة ثقافة ونهجاً، ليس في هذه أقطار الاتفاقيات الثلاثة فحسب، بل من المحيط إلى الخليج.
في عام 2008 أوضح المفكر العروبي المصري د. عبد الوهاب المسيري في منتدى الفكر العربي في عمّان وسط تصفيق الجموع الأردنية والفلسطينية والعربية كيف أن (انهيار إسرائيل من الداخل مستحيل، ولا بد من المقاومة لإسقاطها). وفي 16 حزيران من العام الجاري نشرت صحيفة عكاظ السعودية مقالاً لأحد الأشقاء السعوديين بعنوان (ما هو السلام مع إسرائيل) كتب فيه متسائلاً: (هل تستطيع إسرائيل أن تصبح دولة طبيعية في المنطقة؟! هي تريد سلاماً بين الأنظمة، وليس بين الشعوب التي تمتلك (ثقافة) واحدة من حيث اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد والتطلعات، فمعرض الكتّاب بعنواناته ومؤلفيه وقرّائه هو واحد في بيروت والرياض والقاهرة ومراكش، فبأي صفة ستندمج إسرائيل في هذه المنطقة إذ استبعدت القوة الرهيبة والمساندة الأمريكية غير المشروطة – هذا السلام هو تطبيع، وليس طبيعياً، فالسلام معها سيبقى متناقضاً مع الأقدار، ومع طبيعة الوجود).
والحديث يطول للعروبيين كأغلبية، ومستمر منذ عقود في هذا السياق، وبما يثبت أن نقضيه ساقط وزائل ولا جدوى من الرهان عليه ولا عند أصحابه من المأجورين ولا عند المستوطنين الصهاينة الذين أوضحت وزيرة خارجيتهم السابقة تسيبي ليفني في منتدى (إسرائيل وحلف شمال الأطلس) أن: الحضارة الغربية والمجتمع الأطلسي هما الموطن الطبيعي لإسرائيل.
هذا يبيّن كيف أن سؤال المصير سيبقى يقضّ مضاجعهم ما دامت المقاومة ثقافة ونهجاً أصيلين حاضرين فاعلين بقوة في الوجدان، وفي المحور أيضاً، إذ ستصبح والحالة هذه شعوراً جمعياً وخياراً عاماً لا بديل عنه، آخذاً في التوسّع كواجب وضرورة أمام سؤال الوجود والمصير، والحقوق والكرامة.
ما يتطلب من العرب شعبا، وأنظمة رسمية، وجامعة عربية، العمل الجاد على إعادة الاعتبار في مؤسسات المجتمع الدولي إلى القرار الأممي 3379 لعام 1975 آنف الذكر أعلاه.