جوزيب بوريل.. صوت أوروبي في البرية!!
في تصريحات أشبه ما تكون بصوت في البرية، أكد مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، «الإسباني» جوزيب بوريل، أن «المأساة التي نشهدها بالشرق الأوسط هي نتيجة فشل سياسي وأخلاقي جماعي»، مشيراً إلى أن جهود «حل الدولتين» فشلت على مدار 30 عاماً، وأن «على الأوروبيين أن يقدموا ما هو أكثر من الدعم الإنساني»، ولا بد من التعاطي مع مطالب الفلسطينيين على أنها «مشكلة وطنية».. و«نحن أمام اختبار لمصداقيتنا».
وللأسف، ورغم أن كثيرين ينتظرون مثل هذا الاعتراف، وقد يعلقون آمالاً عليه، إلا أن أحداً لن يستطيع الادعاء بأنها تصريحات رسمية، أو ملزمة للاتحاد الأوروبي، أو حتى تعكس موقفاً موحداً للاتحاد إزاء حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة. فمع بدء عملية «طوفان الأقصى» أعلن المفوض الأوروبي المسؤول عن سياسة التوسع والجوار، «المجري» أوليفر فارهيلي، تعليق المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، وبعده بأسبوع، زارت رئيسة المفوضية، «الألمانية» أورسولا فون دير لاين، «إسرائيل» لتقديم دعمها غير المشروط لحكومة نتنياهو. ومثل هذه الانقسامات حقيقية تماماً، وقديمة، داخل الاتحاد، بعيداً عن أية منافسات شخصية، أو تزاحم على السلطة، ذلك أن ألمانيا، التي تنتمي إليها فون دير لاين، ومعها دول أوروبا الوسطى تظهر جميعها دعماً غير محدود لـ «الدولة اليهودية وحقها في الدفاع عن نفسها»، فيما دول البحر الأبيض المتوسط، وفي مقدمتها إسبانيا تعلق أهمية كبيرة على مصير المدنيين الفلسطينيين، وتصر على التزام احترام القانون الإنساني الدولي في أية «عملية عسكرية». بالإضافة إلى ذلك، هناك تسع دول فقط من بين الدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد تعترف بفلسطين كدولة، فمن يتحدث باسم أوروبا؟
حتى الآن، قد لا يكفي القول إن الدول الـ 27 منقسمة في مواقفها تجاه ما يجري في غزة، بل وتجاه القضية الفلسطينية، وحتى تجاه الشرق الأوسط بأكمله، هذا إن لم نقل أن المنطقة تعاني من تداعيات السياسات الأوروبية، وفقدانها للاستقلالية، بل وموصومة بالكثير من العدوانية.
وبعد «رحلة الحج» الشهيرة إلى «إسرائيل» لإبداء أقصى الانحياز بالتعاطف مع القتلة، ورغم أسبوعين من الارتباك، واجه رؤساء الدول والحكومات المجتمعون في المجلس الأوروبي صعوبة كبيرة في الاتفاق على رسالة صريحة، لقد امتنعوا عن المطالبة بوقف إطلاق النار في إشارة إلى أن وجهات النظر كانت جد متباينة. كانت الشوارع الأوروبية التي غصت بالمتظاهرين الغاضبين تنتظر كلمات قوية وصارخة ضد الوحشية الصهيونية، خاصة بعد المواقف «البطولية» في أوكرانيا. غير أننا اليوم في مواجهة حرائق الشرق الأوسط، حيث تغدو أوروبا مشلولة مرة أخرى «بسبب انقساماتها»، حتى وإن تمكنت من إنقاذ ماء وجهها – إلى حد ما – من خلال التركيز على ما تجيد فعله حصراً: مضاعفة المساعدات المقدمة للسكان المدنيين في غزة ثلاث مرات، وطلب إنشاء ممرات مع مصر لمساعدة المدنيين النازحين داخل القطاع.. «هدنة إنسانية» للسماح بإيصال المساعدات، ولا حديث عن وقف إطلاق النار.
هكذا، اهتز كل ما أسس السياسة الأوروبية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طوال عقود، وأصبحت أوروبا الآن خارج اللعبة، تعاني من العجز التام جراء انقساماتها. ورغم أن الشرق الأوسط منطقة استراتيجية ويمثل قضية رئيسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، إلا أن العلاقة تضعف بين الجانبين وتميل إلى التراجع المنتظم. والأنكى من ذلك أن الشرق الأوسط يدير ظهره جزئياً للقارة العجوز التي يأخذ وزنها بالانخفاض بالنسبة للدول المتوسطية، على الأقل منذ «الربيع العربي»، ومشاريع زعزعة الاستقرار وتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. وبالمقابل، تزايدت حالة عدم اليقين وانعدام الأمن على أبواب الاتحاد الأوروبي وبدأ المشروع الأوروبي يفقد زخمه.
في الواقع، لا تتمتع أي دولة أوروبية بالقدر الكافي من القوة لترسيخ نفسها كلاعب رئيسي، فقد عملت بريطانيا وفرنسا على إقامة «الوطن القومي لليهود» في فلسطين منذ عام 1917. وإن ظلت لندن لاحقاً جد قريبة من المواقف الإسرائيلية، فإن باريس وجهت اهتماماتها لإدارة علاقاتها مع العالم العربي ودعم حق الفلسطينيين في إقامة «دولة متفق عليها» وليس استرجاع الأرض المغتصبة، أما ألمانيا والنمسا فأيدتا المواقف الإسرائيلية، ومن غير المرجح أن تغيرا هذا الموقف، على المدى القصير أو المتوسط، بغض النظر عن تطورات الوضع في غزة، والخسائر في صفوف المدنيين والدمار الذي يشهده العالم، وهذا هو الحال أيضاً بالنسبة لهولندا، وعدد من بلدان وسط وشرق أوروبا. أما إسبانيا فكان لها في كثير من الأحيان مواقف أكثر تفهماً، وهو الموقف الذي نقلته شخصيات إسبانية شغلت مناصب رئيسية في الدبلوماسية الأوروبية، مثل خافيير سولانا وميغيل انخيل موراتينوس فيما مضى، وجوزيب بوريل اليوم.
لقد أعادت الحرب على غزة إلى السطح الانقسامات القديمة الجديدة التي يعاني منها الاتحاد، وقد تودي بصوت الدول الـ 27 في المستقبل، وتهدد بطمس نفوذها مستقبلاً في المنطقة. وقد يؤدي ذلك إلى إضعاف مصداقيتها فيما يتعلق على الأخص بادعاءات احترام القانون الدولي وحماية المدنيين في حالة نشوب أي صراع.
وهو ما سيقلل من شرعية أوروبا ونفوذها. ولعل الحرب على سورية تسلط الضوء على هشاشة البناء الأوروبي.. وتعي نبش التناقضات القديمة.
بسام هاشم