خريف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط
بسام هاشم
رغم كل التدمير الحاصل إلا أن الشرق الأوسط (أي منطقتنا العربية) يمرّ بنقطة انعطاف لا يمكن التعامي عنها.. يعود ذلك لأسباب كثيرة، أولها أن المقولات والشعارات التاريخية التي حكمت تصور الشعب العربي لمستقبله، في الوحدة والتحرر والاستقلال، لا تزال راهنة، وأن أحداً لم يستطع أن يلعب أو أن يبدل في أولوياته؛ ولأن الثقل التاريخي والحضاري، والسياسي بالتالي، الذي تختزنه ثقافة المنطقة لا يمكن أن يتبدد خلال معركة واحدة، ولا حتى حقبة زمنية، ولأن بلدان المنطقة تكبّدت حقاً خسائر جسيمة، مادية وبشرية، ولكنها رغم ذلك لم تتحطم روحياً.. لقد ضعفت من حيث أنها فقدت الكثير من الأصول والموارد، ولكنها عرفت – بالمقابل – تغيرات و”انقلابات” عميقة وغير مرئية، على مستوى الوعي والذهنية، كانت ستحتاج إلى عقود عديدة لإنجازها، أو استكمالها.. وما حدث، بصيغة ما، خلال العقد الماضي على الأقل، هو أن هجمة متوحشة، أطلسية وهابية عثمانية جديدة، لم تنجح في كيّ وعي مجتمعاتنا، ولا في إعادة “هندستها” من خلال التسويق لثقافة انهزامية تكرّس التبعية للغرب، والانخراط لأنموذج “تسوية” للصراع العربي الإسرائيلي يعكس معطيات طارئة ويخدم الهيمنة الإسرائيلية.
مع ذلك، وفي حين أن واشنطن لا تزال تملك العديد من الأوراق، إلا أن الهيمنة الأمريكية تتراجع فعلياً وبشكل واضح، فـ”إسرائيل” تتحول إلى عبء سياسي وأخلاقي وإستراتيجي بعد أن شكلت لعقود طويلة “ذحراً إستراتيجياً” وذراعاً غربية طويلة للغرب في المنطقة العربية؛ كما يتآكل التحكم الأمريكي بأسواق النفط، حيث يبرز لاعبون جدد يفرضون معادلات الأسعار والإنتاج انطلاقاً من مصالح ذاتية نسبياً، وبعيداً عن أية ترتيبات حصرية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفيما تتراجع الدبلوماسية الأمريكية، وتنحسر الترتيبات السياسية والأمنية الخاصة بالرؤية الأمريكية للاستقرار في الشرق الأوسط، تبرهن الصين على قدرتها على حلحلة قضاياً إقليمية مزمنة ومستعصية، متجاوزة لأول مرة حدود دورها التقليدي كلاعب اقتصادي عالمي، ويستمر محور المقاومة في الصعود مضفياً على الصراع العربي الإسرائيلي أبعاداً جديدة ونوعية.
وهنا، فإن التطورات الأخيرة في غزة، وما أظهرته إدارة بايدن من انحياز سافر لحكومة نتنياهو، وتقديمها الغطاء لخطة الإبادة الجماعية التي تقودها عصابة الإجرام الإسرائيلية، تثبت عملياً أنه لم يعد من المقبول ترك الشرق الأوسط رهينة في قبضة الأمريكيين، أو تحت رحمة احتكارهم للملفات السياسية والأمنية. لقد فشلت واشنطن، طوال عقود، في العمل كوسيط نزيه في الصراع العربي الإسرائيلي، ودفعت المنطقة إلى الفوضى والانفجار مرات كثيرة، ولم تتوانَ عن التحالف مع المرتزقة والإرهابيين والتكفيريين في إطار سياسات تغيير “أنظمة” لا تلبي أجندتها السياسية، بل وأقدمت على احتلال دول أو اقتطاع مساحات واسعة منها لخدمة أهداف تفكيكية وانفصالية، لتجد نفسها اليوم في مواجهة جملة من “استحقاقات كارثية”، فلا “اتفاقات أبراهام” تملك قابلية الاستمرار، ولا حلّ الدولتين بأكثر من “خرقة بالية”، أو وعد أجوف يتشدّق بايدن بالحديث عنه على سبيل السخرية من الآخرين، مدركاً أن أزمنة طويلة ستمر قبل ترجمة هذا الحل على أرض الواقع، وأن “إسرائيل” لن تقبل بها بعد أن شرّعت بناء “الدولة اليهودية”.
تثبت التطورات الأخيرة في غزة، أيضاً، أن مقولة “لا مجال اليوم للعودة إلى الوضع السابق”، في إشارة إلى تاريح 6 تشرين الأول الماضي، لا تبدو في مكانها الصحيح إلا بمعنى أن عملية “طوفان الأقصى” حطمت، مرة أخرى، أنموذج الردع الإسرائيلي إلى غير رجعة، وأن مفهوم “الانتصار” لدى جيش الاحتلال لا يتعدّى مجرّد القتل الجماعي للمدنيين باستخدام القصف من الجو والبحر والبرّ، وتدمير الأبنية السكنية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والمقرّات الأممية، وتقويض إمدادات الكهرباء والاتصالات والمياه، بلا هدف سوى التعويض عن الهزيمة النفسية والمعنوية، وبتماهٍ كامل مع السياسات الأمريكية نفسها التي جعلت من سياسات الحصار والعقوبات وتقييد المساعدات الإنسانية، وقطع والوقود وسرقة المحاصيل الأساسية، أدوات حرب لخدمة سياساتها الإجرامية.
حقاً، هناك الكثير مما يبعث على الأسف والإحباط في كل ذلك.. ولكن هناك دلائل كثيرة مقبلة تشير إلى أن الشارع العربي يعيش مناخات ثورية حقيقية، وأن هذا الشارع يحتشد كما لم يحدث منذ عقود عديدة.. إن الغضب حقيقي ومجال المناورة محدود للغاية، والولايات المتحدة الأمريكية ليست الدولة التي يمكنها أن تقول للآخرين ما يتعين عليهم القيام به. ومن سورية إلى لبنان فالعراق فاليمن، يمكن لأي خطأ في الحسابات أن يؤدي إلى تفجير التحالفات التي بنتها أمريكا في الشرق الأوسط، وهذا ما كان من التداعيات الأولية والمباشرة لعملية “طوفان الأقصى”، أقله خلال الفترة الراهنة.
إنه خريف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي المنطقة العربية.. الخريف الذي يتظاهر الأمريكيون فيه ضدّ حملات الإبادة والتهجير الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، فيما “يصدح” بايدن ذو الجذور الإيرلندية بأنه “صهيوني” من خارج اليهودية.. أما ما تبقى فهو أن نستعد لـ “ربيع عربي” حقيقي طال انتظاره..!!