أحلامٌ بريئة
في عالمٍ آخر وتحت شلالات المطر المنهمر كانت أمل … تهتز كالسنابل يميناً ويساراً وتصدر أصواتاً تشبه تكات الساعة إلا أنها كانت أكثر تِكراراً ، فنجدها جالسةً جلسة قرفصاء مطأطأة الرأس تحفُّ بطن كفيها الخشنتين المدميتين من شدة الصقيع بعضهما بعضاً ظناً منها أنها بذلك توقد ناراً تدفئها وتضيء ما حولها من عتمة ،و تحاول جاهدةً استجماع قوتها كي تبقى أقوى أمام عيني أخيها الصغير ذاك الطفل الذي لم يبلغ من العام نصفه والذي لم يفهم أيضاً ما يحوم حوله من دمار ، كان راقداً إلى جانبها محاطاً بأقمشة مهترئة يرمقها بنظراتٍ بريئة أشبه بنظرات الملائكة ويراقب كل حركة لها وكأنها هالة من الكريستال تلمع أمامه مع أنها صغيرةٌ جداً على أن تكون قدوة وعلى أن تأخذ دور الأم والأب معاً في آن واحد… فهي الأخرى كانت تنتظر العام الجديد لتدخل عامها الثاني عشر.
كم كثيرة هي الأحلام التي حلمت بها هذه الفتاة فمثلاً أن تدخل يوما ما إلى الجامعة وتحقق حلم أبيها بكونها قاضية تحكم بالعدل أو أن تحقق حلم والدتها بكونها مهندسة تعمر وتبني أو أن تحقق حلمها هي بكونها معلمة تُصدّر للحياة الكثير والكثير من أحلام والديها ، فراشةٌ كانت تتتبخترُ من زهرة لأخرى لتحصل على ألذّ رحيق أما الآن فقد أصبح ألذُّ حلمٍ لها أن تلحق بسرب والديها إلى الجنة مع أخيها الصغير.
كان الصمت سيد المكان مع أنه قليلاً مايكون كذلك ، ولا أحد مع الصغيرين سوى بعض الأشخاص الغريبين الذين لضرورة الأحداث أصبحوا كالمقربين لهم فها هنا شخص يساعد وها هنا امرأة تطعم وترضع ..
وفجأة وفي صمت الليل وصقيع السماء ورقصات الأمطار المدوية …
نامت أمل ، غَفتْ تلك الفتاة الوحيدة وانسدلَ شعرها البني على الأرض مفترشاً دونما ترتيب ، كان وجهها كالبدر إن لم أبالغ .. بل كان البدر ذاته ، فكيف لبدر أن يكون على الأرض ؟! …
كانت تتنفس الصعداء وتتمايل أيضاً ولكن ليس من شدة البرد هذه المرة بل من حرارة الشظية التي دخلت جسدها الصغير دونما خجل..
وبالرغم من كل ذلك كانت ترمق بكلتا عينيها المكان وتبحث فيهما عن ذاك الطفل الصغير الذي إن حدث لها مكروه ما سيموت لا محالة لا من قلة الأخيار حوله بل من قلة الحنان الذي يحتاجه من أمه أمل …
لم يمضِ ثوان ٍحتى أشار قلبها إليه … نعم ذاك هو طفلها المحبوب مازال يرقد بجانبها ولكنه لا يبادلها النظرات هذه المرة ولا حتى يناغيها كما كانت تعهده …
( فتاة مصابة وطفل شهيد ) قالها أحدهم وهو يصرخ طالباً النجدة … سمعت أمل تلك الجملة ( طفلٌ شهيد ) حينها فقط أصبحت تلتوي من الألم فهذه الجملة كانت أقسى عليها من الشظية الحارقة المخترقة صدرها …
عندها أغمضت عيناها بقوة شديدة راجية من الله أن لا تفتحهما مرة ثانية ، وإذ بصوتٍ جميلٍ يُطرّبُ مسامعها وتشتاقه روحها يناديها باسمها ( أمل يا صغيرتي هيا استيقظي ) فتحت أمل عيناها لتجد أمامها ما حلمت برؤيته مطولاً أمها وأباها وهما فوق رأسها يستعيذون بالله ويقرؤونَ بضع آيات علّها تُهدّئ من روعها وأخاها يناغي في سريره ويبتسم لها وبيتها الجميل الذي لم تمل من النظر إليه فقد كان كما هو لم يتغير فيه شيء ..
التفتت نحو والدتها وقالت بصوتٍ ضاحك ٍ تملؤه السعادة ( هل كان كابوساً يا أمي ) لتجيب الأم : ( بل كان واقعاً يا صغيرتي وها أنت الآن خرجتِ منه وجئتِ إلينا فتحقق ما كنتِ تحلمين به أما كان هذا حلمك منذ البداية ) ….
نظرت إلى السماء ثانيةً أخذت تنهيدة طويلة وأغلقت عيناها وتمتمت في قلبها حمداً لله على تحقيق ما أردت …
غفت أمل بسلام ونام معها الكثير من الأطفال وإلى الآن مايزال ينام الكثيرون منهم دونما حراك …
كم يحتاج هذا العالم من أمل حتى يستفيق أم أنه سيقتل كل وميضٍ فينا في الحياة لنغدو دونما أمل..
بقلم: زينب عساف