الرفيق الأسد.. نعم بوسع “البعث” أن ينجز الكثير!!
بسام هاشم
يقرأ الرئيس الأسد في مشهدية تاريخية تبدأ مع سقوط الأندلس، عام 1492، ولا تنتهي في وقتنا الراهن، لأنه حريص على التطلع إلى المستقبل وسط الضباب والعتمة الراهنة. وأنت عندما تنصت لسيادته عن قرب، تدرك سر الكيمياء التي مكنت سورية من الصمود والمواجهة خلال كل هذه السنوات الطويلة من المقاطعات والضغوطات والحروب والحصارات التي تأخذ أبعاداً إجرامية، قاتلة ومميتة.
والشجاعة الفكرية للرفيق الأسد لا تكمن، وحسب، في إعادة تفكيك وتركيب الأحداث والوقائع وفق رؤية استشرافية تزرع الثقة والأمل، في كل عبارة وفي كل كلمة، وفي القدرة على “تنصيب” الموقع السوري دوماً وفق إحداثيات وطنية وحضارية مستقبلية، بل وفي القدرة على الاعتراف بالحقائق المؤلمة بما يمكّن من تحويل النزاهة الفكرية المجردة إلى قيمة مضافة: “نعم.. كان لأحداث 2011 أسبابها الداخلية”، قال سيادته!!
ومن الانتخابات الأخيرة في الأرجنتين، إلى الأزمة العقارية الحالية في الصين، مقارتة بأزمة الرهن العقاري (2008) في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى العدوان الأخير على غزة، يعي الرفيق الأسد، بقراءته العميقة والموسوعية، أن خمسة قرون من الهيمنة الغربية العالمية تصل اليوم إلى خط النهاية، وأن ما نشهده الآن هو طي صفحة مديدة، لطالما كانت صارخة في استغلالها وعنصرتيها ومعاييرها المزدوجة، لنعانق انعطافة تاريخية تترجم واقع انتقال مركز الثقل الاستراتيجي العالمي إلى حضارة جديدة، ومنظومة قيمية وأخلاقية مختلفة؛ وهي انعطافة لعبت فيها المنطقة العربية، والمشرق العربي بالتحديد، دوراً تحريضياً، توليدياً، ولربما كانت قابلتها القاونية. وإذا كان لهذه العملية التاريخية أن تسير إلى نهايتها المفترضة – وهي تسير – فإننا نستطيع القول إن ساعتنا الحضارية قد دقت، وأن زمن عودة مشاركتنا الحضارية قد حان، وأن مثل هذه المشاركة، بأفقها الواسع، إنما تبدأ من فردياتنا الصغيرة، وعلى مستوى السلوك الحزبي الداخلي، لترتمي، من ثم، في الفضاء الوطني السوري، والعروبي الحضاري الواسع.
يدرك الرئيس الأسد أن المنطقة العربية دفعت الثمن على امتداد حقب ومراحل طويلة، وأن ما يسمى “الربيع العربي” شكل الفاتورة الأخيرة التي دُفعت على مذبح الدفاع عن الذات والمبادئ، وفي سبيل وقف محاولات تحطيم الدولة والمجتمع، ومواجهة مشاريع تذويب الهوية الجماعية. ولكن، وبما أن النهايات تتصل بالبدايات، والعكس صحيح، فإن انهيار الهيمنة الغربية، ومعه اندحار “إسرائيل”، كما نعاين اليوم، يأتي – تماماً كما كان “إعلان قيام إسرائيل” تأسيساً لـ “النكبة” – نكبتنا – تأسيساً لـ “يقظة” ثانية تدشن عودتنا الى الخارطة العالمية.
غير أن هذه اليقظة / الانعطافة لابد أن تترافق بوعي مختلف، يكون فيه الحوار بمثابة أداة للتعرف إلى الآخر، الشريك في الحزب، وفي الوطن، والتوافق معه. وهذا التوافق – على خلاف الإجماع – يتخذ شكل سلسلة متوالدة من العمليات التي تقود دوماً إلى توافقات جديدة ومتجددة. أما الإجماع فهو حالة مطلقة، وقد تكون افتراضية، ومتوهمة، سرعان ما قد تسقط في التكاذب. إن الحوار في فلسفة الرفيق الأسد آلية ترتبط بالحرص على تطوير الذات، والبحث المستمر عن مساحات وقواسم مشتركة، وهو تعبير عن مرحلة متقدمة من النضج والأهلية المجتمعية والوطنية؛ وقبل كل شيء هو فرصة لردم الفجوة الفكرية – التي طالما عانى منها البعثيون – ولم يجدوا حلاً إلا من خلال الممارسة الملتزمة.
وإذا كان الحوار هو إحدى الآليات الرئيسية في مواجهة محاولات الاختراق من الداخل، أو من الخارج، على حد سواء، فإن المشاركة تتأسس على الإيمان بالروح الجماعية والممارسة المسؤولة، وبالقدرة على إحداث التغيير عبر آليات بناءة وإيجابية، بعيداً عن النزعة الفردية المريضة وحس الأنانية. والمشاركة، على اختلاف مستوياتها ومراحلها، مسألة حيوية للانطلاق لمعانقة المستقبل، والارتماء فيه بكل ثقة، وهي تنطلق من استنهاض العامل الذاتي، وشحذ الإرادة، والتقدم نحو عملية البناء الوطني بكامل استحقاقاتها. وهنا، تغدو المشاركة في الانتخابات الحزبية، كمرحلة أولى، نوعاً من إعلان التأهب والجهوزية، ومن إشهار الاستعداد للتلاقي الجماعي تحت الخيمة السورية المستقبلية.. إنها تجسيد للمشروع المشترك الذي ينهض على حتمية التخلي عن المشاعر السلبية، والإحباطات غير المبررة، وقصر النظر، وضعف طاقة التحمّل، والإغراق في الاتكالية، للعودة بالتالي إلى الجوهر المضيء للحياة الاجتماعية والوطنية.
ولكن الاستعداد لملاقاة الانعطافة الراهنة يتطلب ثقافة فكرية ومجتمعية مختلفة تعترف، أول ما تعترف، بواقع أن الحقائق نسبية، ومتغيرة في المحصلة، وأن ما هو “صحيح” اليوم قد يكون “غير صحيح” غداً، وأن الحقيقة لم تكن، يوماً ما، نهائية، كما لم تكن حكراً على طرف دون آخر، وهي بالتالي ليست مجموعة في نظرية واحدة. وعلى ذلك، فتقبل الاختلاف قيمة حضارية بينبغي تزكيتها، بالابتعاد عن النزعة الإطلاقية، التي هي سمة الجمود والتحجر والتطرف.. إن ثقافة الإلغاء والإقصاء هي أبعد ما تكون عن تراثنا الأصيل، ومما يرثى له، حقاً، أن مجتمعاتنا كانت تعترف بالحريات وتعيش مناخات التسامح أكثر بكثير مما تسجله، اليوم، حتى بعض نخبنا الفكرية والدينية والاجتماعية الأكثر حضوراً وشعبية. إن الاعتدال، هنا، يمنح المرونة الذهنية والروحية الكافية لهضم التحولات وتمثلها والتكيف معها والتعاطي معها، ومناوشتها، وبالتالي استثمارها دون أن نعرض أنفسنا ومجتمعاتنا للرضات الانكسارات الدورية والمزمنة.
…
ويبقى السؤال الكبير: ما هو دور البعث؟ وهل يستطيع..؟
نعم.. بوسع “البعث” أن ينجز الكثير، طالما أنه كان تاريخياً للسوريين جميعاً، وسيبقى كذلك!!
نعم.. يستطيع!! فـ “البعث” ملتصق بتاريخ سورية الحديث، وهو صورة مختزلة عن المجتمع والوطن السوريين، “البعث” أكبر من مجرد حركة، أو حزب سياسي.. ولكن على “البعث” أن يعزز دوره الاجتماعي، وأن يلاقي مجتمعه.
وإذ يتعين علينا أن نتمثل تماماً حقيقة أن أي تغيير حقيقي لا يمكن أن يكون قسرياً، ولن يكون من الأعلى إلا في حدود ما هو ضروري، فإن علينا أن نمحض مفاهيم الحوار والمشاركة والمسؤولية، وكل المفاهيم والآليات الملازمة، كل ما فيها من نبض وبعد فردي ومجتمعي، مع الإدراك الكامل بأن أية تساؤلات بهذا الشأن لا تخص “البعث” وحده، بل وتخص كل السوريين بلا استثناء.
تنطلق فلسفة التغيير عند الرفيق الأسد من ضرورة التزام الذهنية البناءة لتحويل أبة إشكالية إلى فرصة للتقدم، والتعامل مع أية فرصة كنوع من التحدي المحرض.. وأن نحول التنوع الى مصدر للمنعة بقوة التجانس، ونحول المعرفة إلى قوة تغييرية.
.. وفي المعرفة تكمن القوة!!