البعث وأولوية العمل الفكري
د. مازن جبور
يمثل لقاء لأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي الرئيس بشار الأسد مجموعة من المفكرين والأكاديميين والكتاب البعثيين في حوار عن دور الحزب في مستقبل سورية، مؤشر على أمرين أساسيين، الأول: ضرورة التغيير، والثاني: إرادة التغيير، إذ يعد التغيير سمة من سمات حزبنا، فالسمة الديناميكية لفكر حزبنا ولممارسته كانت حاضرة بقوة في مراحل التأسيس الأولى، لدرجة أن هذا الفكر وهذه الممارسة نشأتا داخل الأطر الحركية نفسها.
ما سبق، ميز حزبنا تاريخياً بأنه لم يتبنى نظريات جاهزة، بل بنى نظريته بنفسه، كذلك، برزت ديناميكية الحزب خلال الحرب على سورية، إذ سرعان ما تحول إلى حزب مقاتل إلى جانب الجيش العربي السوري، دفاعاً عن وحدة وسيادة واستقلال سورية.
لكن اليوم وبعد تجربة 60 عام في السلطة لحزب البعث العربي الاشتراكي، يطرح سؤال الدور والمكانة نفسه بقوة على البعثيين عموماً، حول صورة البعث والبعثي في المخيال الاجتماعي السوري والعربي، إذ وضِع حزب البعث العربي الاشتراكي وكوادره على المحك مع اندلاع الحرب على سورية، وذلك بعد ما يقارب خمسين عاماً كان فيها البعث قائداً للدولة والمجتمع، مع تعداد تجاوز الثلاثة ملايين عضو، سرعان من انفض جزء كبير منهم –تجاوز النصف- من حوله مع اندلاع الحرب.
كشفت الأزمة السابقة مشكلة جوهرية في عمل البعث، على صعيد شقه المتعلق بالتنظيم والإعداد والثقافة والإعلام، وينتج عنها تساؤلاً رئيساً، هل ركز البعث على الكم وتغافل عن الكيف؟ وليس المقصود هنا أن يكون حزباً نخبوياً، لكن من المهام الأساسية لأي حزب إعداد كوادره وتثقيفهم بما يقوي رابطة الانتماء لديهم بالحزب والوطن والقضية.
في السياق السابق، تتلمس البنى الحزبية اليوم حالة نفور جماهيري، ليس نتيجة الممارسة والسلوك فقط، بل ونتيجة اتساع الفجوة بين الأيديولوجية التي يتبناها البعث وبين الواقع، ومن هنا يعد التغيير مهمة أساسية أمام البعثيين، خصوصاً أنه حالة طبيعية تفرضها الظروف التاريخية ومتطلبات التطوير، إذ أن الحفاظ على دور الحزب الريادي كقائد للدولة والمجتمع يتطلب منه أن يتسع ليشمل شرائح المجتمع كافة والتعبير عن رغباتها وقيادتها لتجاوز محنتها الراهنة، وتتطلب عملية التغيير في الحزب، وضع معايير أساسية يتم الاحتكام إليها لكشف صحة التغيير، وأهم هذه المبادئ: أولاً: وحدة وسيادة واستقلال سورية، ثانياً: مصلحة الجماهير، وثالثاً: مستقبل حزب البعث العربي الاشتراكي .
وللتغيير أبعاد مختلفة أهمها البعد السلوكي والبعد الأيديولوجي والبعد الاجتماعي، وتتمثل أيديولوجيا البعث في الاشتراكية والقومية، فالاشتراكية عقيدة اقتصادية واجتماعية وسياسية جاءت للتعبير عن نظام يهدف إلى إلغاء استغلال الإنسان من قبل الإنسان، أي أن هدفها زيادة النمو ورفع مستوى رفاهية الإنسان، لكن السوق يوفر مؤشرات مهمة عن عدم كفاية المنتجات والعجز في إشباع الطلب ما يتطلب توجه الهيئات التخطيطية لإدارة الاستثمار وتحقيق التنمية.
وكما كان اقتصاد السوق الاجتماعي صيغة من صيغ الاشتراكية لبناء اقتصاد متطور لخدمة مصلحة الشعب بكل فئاته، بحيث يسهم كل إنسان في البناء حسب إمكاناته ليحصل على حصته في الناتج بنسبة الإسهام، فإن اجتراح صيغة اقتصادية جديدة مناسبة للواقع الراهن بات أمراً ضرورياً، على أن يبقى الأمر مرتبط بالسياسات التي تعتمدها الدولة، وهنا يبرز دور البعث في ضمان تقيد السلطات التنفيذية بهذه المبادئ ومراقبتها.
ويمكن أن يكون ذلك من خلال اعتماد سياسة مالية ونظام ضريبي تصاعدي يؤمن موارد لتمويل الخدمات ويسهم في تقليص الفروق في الدخل بين مختلف فئات الشعب، ويحقق عدالة التوزيع، وهذا مرتبط بمكافحة الفساد واقتلاعه من جذوره، وتقسيم البلاد إلى أقاليم اقتصادية، وتقديم سياسات وخطط تنموية تتناسب وكل إقليم منها، إذ أن الإشكالية الحقيقية تكمن في كيفية خلق الفائض الاقتصادي وليس في كيفية التوزيع فقط.
ما سبق لا يعني تخلي الحزب عن دوره الاجتماعي، بل يجب أن يسعى باستمرار إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص من خلال تشكيله لقوة اجتماعية واقتصادية وسياسية قادرة على المنافسة وعلى ضبط ميزان القوى لصالح الفئات الاجتماعية المهمشة، بمعنى أن التأسيس لمضمون جديد للاشتراكية يجب أن يقوم على أساس تحليل موضوعي للبنية العامة للمجتمع.
أما العروبة، فقد جاء حزب البعث العربي الاشتراكي في مرحلة كانت فيها سورية حاضنة الفكر القومي العربي، وساحة رواده ومفكريه، وقد تعمق هذا الوضع، وأخذ مسارات أكثر تنظيماً، أما اليوم فمهمة الحركة القومية كوعي لا تقتصر على تفسير الواقع وفهمه وكشفه، وإنما على إبراز الجدوى من هذا الكشف، إذ أن التفريق بين أمة وأخرى يكون على أساس الإنجاز البشري لكل منها، ومن ثم فإن وعينا لذات أمتنا ولأساليب تحقيق هذه الذات يجب أن يتناسب ومنطق تطور الأمة في الواقع، وبالتالي استنباط مسارات التطور الممكنة.
إذاً، يقتضي الوضع السوري العام الراهن، العمل ضد مساعي إحداث التباس في الوعي السياسي للمجتمع السوري، هذا العمل مسؤولية كل السوريين على اختلاف انتماءاتهم لاجتراح الحلول وتصحيح الخطأ، وفي مقدمتهم حزب البعث العربي الاشتراكي، إذ إن استعادة دوره ومكانته مسؤولية البعثيين جميعاً، وإلا فإن إعادة إنتاج الأزمة السورية مستمر، طالما أنه ما زال متاح أمام المتربصين بالوطن استخدام الأدوات ذاتها.
وبالتالي تمثل عملية إعادة تأهيل بعض الشرائح المجتمعية التي كانت حاضنة للفوضى والإرهاب، مهمة أساسية تقع اليوم على عاتق البعث والبعثيين أكثر من أي وقت مضى، على اعتبارها من تبعات الحرب، ومن ثم على البعث أن يقوم بدراسة عميقة للمجتمع السوري وللتحولات التي طرأت عليه، وتحقيق المواءمة بين الخطاب والممارسة، الأمر الذي سيمكنه من الوصول إلى كافة شرائح المجتمع، ومنعها من أتكون ثغرة لاستهداف سورية.
قاد المتغيّر الدستوري في سورية مع دستور 2012، إلى تحوّل هيكلي في فضاء السياسة الوطنية السورية، ذلك لأن الانتقال إلى التعددية السياسية، يعني بروز أحزاب جديدة ستسعى لتشكيل حاضنة اجتماعية، وهو التحدي الفعلي الذي على البعث أن يتعامل معه مستقبلاً، ورغم ذلك، فإن التحوّل في مكانة حزب البعث العامة لا يحددها الدستور، بل مدى القدرة على التكيّف والتقدم في المنافسة، وهنا فإن الحفاظ على البعث كحزب ثوري انقلابي مهم، لكن على أن تكون الثورة على الواقع للانقلاب عليه باستمرار بغية تحسينه.
ومن ثم، فإن الثورة الحقيقية التي يحتاجها البعث اليوم هي ثورة فكرية تنتقل بالجماهير من سيطرة الإرث الثقافي الديني والقومي الضيق إلى ترسيخ ثقافة المواطنة والمصلحة المشتركة لتعزيز الهوية والانتماء، فالتحديات التي تواجه سورية والسوريين اليوم، تحتاج إلى إبداع الشعب، إذ أن كل تطوّر هو بالضرورة نتيجة طبيعية لتطوّر المجتمع ذاته.
بناءاً على ما سبق، ولردم الفجوات الحاصلة بين النظري والتطبيقي على مختلف الأصعدة، يتطلب من حزب البعث أن يعطي الأولوية في المرحلة الراهنة للفكر أي أن يتحول إلى خلية عمل فكرية، بغية النهوض بالبعث للنجاح في مهمته كقائد في الدولة والمجتمع، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن تشكيل لجنة فكرية مهمتها دراسة الواقع السوري سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، للخروج بنظرية جديدة تمثل رافعة لاستعادة البعث مكانته في المخيال الاجتماعي السوري.