عن “ردم الفجوة الفكرية بالممارسة”.. و”البعث القادم”
بسام هاشم
في حديثه عن “ردم الفجوة” الفكرية والإيديولوجية بالممارسة، على امتداد ثلاثة أجيال من غياب الحوار، قدم الرفيق بشار الأسد، الأمين العام للحزب، رئيس الجمهورية، خلال لقائه مجموعة من المفكرين والأكاديميين البعثيين، قبل أسبوعين، إجابة مدهشة وحاسمة لطالما غابت عن أذهان كل أولئك الذين تناولوا بالنقد، و”التجريح” أحياناً، “جمود” المنطلقات النظرية، ومعها مجمل الإنجاز النظري للحزب طيلة سنوات طويلة. ورغم أن “الذخيرة” الفكرية والعقائدية للأحزاب الكبرى تقتصر، عادة، على مجموعة من العناوين والأهداف والسياسات الرئيسية التي يعاد “تحديثها” و”قولبتها” وفقاً لمتطلبات المراحل التاريخية، إلا أن من المعروف أن الأساس النظري لأي حزب يبقى قائماً في كتابات ونظريات لا ينتجها الحزب نفسه، بقدر ما ينتجها، ويعبر عنها، المفكرون والفلاسفة الذين ينتمون إلى “عبقرية” مجتمعه وأمته، وتتجلى في أعمالهم ومؤلفاتهم.. وهكذا، كانت الفلسفة الماركسية، التي استعارت من الهيغلية “المثالية!!” منهجها الديالكتيكي، أساساً نظرياً لأحزاب شيوعية، ومن ثم “شيوعيات” متعارضة – بل ومتصارعة أحياناً – ارتدت خصوصية محلية (وطنية أو قومية)؛ وهكذا أيضاً كان حال الأحزاب القومية – ومنها العربية – والأحزاب والحركات ذات الطابع الديني (من الوهابية التكفيرية، إلى لاهوت التحرير الإسلامي “المقاومة”، والأمريكي اللاتيني)، وحتى أحزاب اليسار واليمين والوسط، التقليدية، في أوروبا الغربية.
ومثل هذا التمهيد، على اقتضابه واختزاله، يرمي، وحسب، للإشارة إلى محاذير المغالاة في التطلب فيما يتعلق بالجوانب النظرية، أو التطوير الفكري، في حزب البعث؛ فالظاهرة الحزبية، بطبيعتها، ذات سمات عملية وإجرائية، وهي لا تنمو إلا في الممارسة؛ ولعل ذلك ما يفسر تسارع تفرعاتها وتحولاتها وانقساماتها، وحتى انشقاقاتها المتواصلة، مع حرصها على احتكار تمثيل “المرجعية” التاريخية..
إن أصل الأشياء أن تتبنى الأحزاب برامج مرحلية، سياسية واقتصادية واجتماعية، مستمدة من واقع وطموحات واحتياجات بلدانها ومجتمعاتها، أما مسألة تطوير نظرية ما في القومية، أو في الأمة، أو في ماهية الرسالة الخالدة، أو العدالة، أو المساواة، أو الاقتصاد، أو الاشتراكية (العربية!!)، فتلك مهمة مفكرين وفلاسفة لا ينتمون، عادة، إلى الأحزاب، إن لم يكونوا فوقها.. وهكذا، يمكن الحديث عن مفكرين وفلاسفة كثيرين “اقتربوا” من “البعث”، وانتسبوا إليه “عن بعد”، بفعل القرابة الروحية والعقائدية، لكنهم كانوا دائماً على علاقة إشكالية معه، من موقع “إخلاصهم لمهامهم النقدية” أولاً، ومن سوء الفهم المزمن الذي يسم العلاقة بين السياسي والحالم، ثانياً.. والأمثلة كثيرة!! وبصيغة أكثر وضوحاً، يمكن القول إن وضع الأطر النظرية للأحزاب مهمة تتم على الأغلب خارج أي حزب، وعلى يد منظرين لا تربطهم بالضرورة علاقة تنظيمية مباشرة بالمؤسسة الحزبية، التي لها ضروراتها وشروطها الإجرائية. إن إرهاق العمل الحزبي ورهن أدائه، بالاشتراطات والإحالات النظرية “الجامدة” كفيل بتكبيل أدائه، ولربما القضاء عليه نهائياً. ونحن حين نتطلع إلى أداء حزبي قوي وفعّال، فإن علينا أن نحترم حقيقة أن ذلك لن يتأتى إلا من خلال الحضور المرن والمستمر وسط جمهور علينا الاعتراف بأنه بات محكوماً بمؤثرات باتت “لحظية” ومتنوعة ومتضاربة.
إن أية محفوظات أو نصوص ثابتة سرعان ما تتحول، في ظل التسارعات الراهنة، إلى قيود ولغة خشبية. فنحن اليوم عندما نتحدث، مثلاً، عن القاعدة الاجتماعية لـ “البعث”، كما وردت في أدبياته ومنطلقاته النظرية، فكأننا نتحدث عن حزب تجاوزته التحولات الاجتماعية العميقة التي أحدثتها سياسات الحزب نفسه في مجتمعه، أو كأننا نسحب مظلة الحزب من فوق شرائح واسعة شاركت البعث – وتشاركه – ثوابته الوطنية والقومية، وعملت – وتعمل – في “دولة البعث”، وفي ظل حكوماته المتعاقبة وسلطته السياسية. أما الفصل بين “البعث” وبين أي مكون سوري، فردي أو جماعي، مهما كان طابعه، ثقافياً أم اجتماعياً أم اقتصادياً، فلا يعني إلا الانكفاء عن “بعث” أنجز مهمة صهر السوريين في بوتقة واحدة، طوال عقود من تسلمه قيادة المجتمع والدولة.
سيبقى تطوير الجانب الفكري لحزب البعث ضرورياً ومهماً طالما أننا، كسوريين، معنيين بالاستمرار في عالم نتواصل معه وننتمي إليه. فـ “البعث” كـ “فكرة” شيء مختلف تماماً عن “البعث” كحركة سياسية: الأولى تتصل بماضينا ومستقبلنا، وبعروبتنا الحضارية كما تجلت عبر الحقب التاريخية المختلفة، وبالرسالة الخالدة على امتداد العطاء الإنساني والحضارة البشرية، وبالطموح والدور والمكانة، والثانية ترتبط بحشد وتعبئة الجماهير العربية لبناء الحاضر والمستقبل في كل مرحلة.. صحيح أن المساهمة الفكرية مهمة وضرورية لعمل الحزب، وإبقاء جذوة البعث متدفقة ووهاجة، ولكن الإلحاح على أولوية تطوير فكر البعث، من داخل البعث فقط، يعكس صورة متخيلة عن واقع العمل الحزبي أكثر مما يعكس الحقائق العملية.
إن “ردم الفجوة” من خلال الحوار يمثل، اليوم، عملية مستمرة تنهل من الواقع اليومي للعمل الحزبي، ومن تطورات الأحداث المحلية والعالمية، ومن التحديات الوطنية التي تفرض نفسها في المرحلة الراهنة، ومن طموحات البعثيين ورؤيتهم لأنفسهم. وبالتأكيد، فقد جاء توضيح الرفيق الأسد بمثابة دفاع نبيل عن الحزب، لا تبريراً لتقصير هذا الحزب، كما عكس مساهمة أولية في رسم الصورة الذهنية.. لـ “البعث القادم”.