طموحات فرنسية في الذكاء الاصطناعي هل تتحقق ؟
تطمح فرنسا لأن تكون رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، لكن هذا ليس بالأمر السهل حسب رأي الخبراء. فما هي خطط وطموحات الحكومة الفرنسية فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي وهل تستطيع تحقيقها بمفردها بمعزل عن شركائها في أوروبا؟
أعلن عملاق البرمجيات مايكروسوفت في أواسط شهر مايو/ أيار الجاري خلال قمة للاستثمار عقدت قرب باريس، عن استثمارات جديدة في فرنسا بمجال الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات تقدر بأربعة مليارات يورو حتى عام 2027.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في هذا السياق “من خلال مركز البيانات (الجديد) الذي سيكون أحد أكبر المراكز في أوروبا، سنكون في موقع متقدم جدا في مجال الذكاء الاصطناعي وتخزين البيانات”. وقد أعلن ماكرون في صيف 2023 عن خطة حكومية للذكاء الاصطناعي تتضمن ضخ 500 مليون يورو حتى عام 2030 لإنشاء مجموعات مراكز أبحاث للذكاء الاصطناعي. وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي أصبحت شركة الذكاء الاصطناعي “ميسترال إيه آي/Mistral AI ” الناشئة شركة ضخمة بزيادة رأسمالها، لتتجاوز قيمتها السوقية مليار دولار. وتعد Mistral AI منافسة للشركة الأمريكية OpenAI التي طورت برنامج “تشات جي بي تي” للذكاء الاصطناعي. لكن رغم ذلك لا تزال فرنسا وأوروبا بحاجة للكثير من الجهد والعمل للمنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي، حسب رأي الخبراء.
“غيرت الحكومة الفرنسية موقفها وقررت أن تصبح البلاد لاعبا رئيسيا في مجال الذكاء الاصطناعي، على عكس ألمانيا”، كما يقول نوح غرين في حوار مع DW، وهو باحث مساعد في فريق مشروع أمن الذكاء الاصطناعي بمركز أبحاث الأمن الأمريكي الجديد في واشنطن. وأضاف: “لكن حتى الآن تحتل الولايات المتحدة المركز الأول تليها الصين ثم بريطانيا بفارق واضح، ثم تأتي فرنسا أولا وألمانيا ثانيا في الاتحاد الأوروبي”، وأسباب هذا التخلف الأوروبي ليست تكنولوجية فقط.
“الولايات المتحدة رائدة السوق منذ فترة طويلة، حيث يفضل الكثير من المستثمرين استثمار أموالهم فيها، لأنهم يعرفون أنه تتوفر هنا المواهب والبنى التحتية اللازمة” يقول نوح غرين، ويتابع: “فرنسا على العكس من ذلك، معروفة بتشريعاتها التقييدية لسوق العمل، والتي عانى منها سابقا عمالقة التكنولوجيا مثل غوغل”.
لكن بالنسبة إلى فيرونيك فينتوس، التي ساهمت في تأسيس شركة NukkAI الناشئة في باريس، فكان الأمر محسوما بأن مقر شركتها سيكون في فرنسا، وتقول في حوارها مع DW “هنا يوجد باحثون رائعون، وبرامج دعم حكومية”. وكانت فينتوس باحثة سابقة في مجال الذكاء الاصطناعي بجامعة باريس- سكالاي. وتضم شركتها التي أسستها عام 2018 فريقا من 25 شخصا.
“الذكاء الاصطناعي لدينا مختلف عن الآخرين، حيث أن الناس جزء ثابت من النظام، يستطيعون تتبع العمليات وتلقي التفسير الدقيق من الذكاء الاصطناعي لتوصياته”، تقول فينتوس المختصة في الذكاء الاصطناعي. وتضيف “علاوة على ذلك نستخدم كمية أقل بكثير من البيانات، وبالتالي توفير الطاقة”. ويستخدم حوالي عشرة زبائن تكنولوجيا NukkAI للتخطيط اللوجستي، من بينهم مجموعة تاليس الفرنسية وحلف الشمال الأطلسي (الناتو). وتتعاون الشركة بشكل وثيق مع الجامعات الفرنسية، التي توفر لها الوصول إلى الكمبيوتر العملاق في مركز جان زي يجامعة باريس- سكالاي، والذي يعد أقوى وأسرع كمبيوتر في أوروبا حاليا.
تحتاج فرنسا وأوروبا مستقبلا إلى المزيد والأفضل من مثل هذا الكمبيوتر العملاق، تقول كريستين دوغوان الباحثة والمدرسة في مرصد الذكاء الاصطناعي في جامعة السوربون، وتضيف لـ DW “فقط هكذا يمكن المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي”. وفي هذا السياق من المقرر توفير هكذا كمبيوترات عملاقة، حيث سيتم خلال العام الحالي تركيب جهاز كمبيوتر عملاق في منطقة يوليش بولاية شمال الراين ويستفاليا في غرب ألمانيا، وكمبيوتر عملاق آخر العام القادم في مقاطة إيسون بالقرب من باريس، وسيكون هذان الكمبيوتران أول جهازين في أوروبا يتمتعان بسرعة حسابية تتجاوز إكسافلوب أي أكثر من مليار عملية حسابية في الثانية!
\”رغم ذلك فإن أمريكا لا تزال متقدمة علينا ومن المتوقع أن تتفوق الصين عليها بكمبيوترها العملاق Tianhe 3 الذي تقول إن سرعته الحسابية تصل إلى أكثر من 2 إكسوفلوب (2 مليار) في الثانية، ما يجعله أسرع كمبيوتر في العالم” تقول دوغوان. والتعاون الأوروبي ليس ضروريا لهذا السبب فقط، وإنما أيضا لأنه “منذ أن غزت روسيا أوكرانيا عام 2022، تقوم بحملة تضليل ضد أوروبا تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ويمكننا الدفاع عن أنفسنا ضد ذلك معا فقط (متحدين)” توضح دوغوان.
المزيد من الاستثمارات الحكومية
هدف شركة وحيد القرن الأوروبي هيلسينغ، هوالدفاع عن قيم أوروبا الديمقراطية. شركة صناعة الأسلحة هذه التي مقرها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا تم تأسيسها عام 2021، وأكدت حرب أوكرانيا أن مؤسسي الشركة كان لديهم حدس صحيح، يقول أنطوان بورديس، نائب رئيس الذكاء الاصطناعي لدى هيلسينغ، ويضيف لـ DW: “تواجه أوروبا والديمقراطيات الغربية خطرا وجوديا. علينا بناء سيادة تكنولوجية ودفاعية مشتركة، وسيكون الذكاء الاصطناعي حاسما في تحقيق ذلك”.
على سبيل المثال يقوم الذكاء الاصطناعي الخاص بشركة هيلسينغ، بمعالجة بيانات الأقمار الصناعية أو الرادارات في الوقت الفعلي، ويتيحها للقوات البرية والجوية والبحرية في مناطق القتال بما في ذلك أوكرانيا. “الفريق العابر للحدود متكامل: فألمانيا لديها ثقافة صناعية قوية، في حين أن فرنسا تتميز بالابتكارات” يقول بورديس. لكن لكي تقف أوروبا على قدم المساواة مع الولايات المتحدة والصين، يجب القيام بالكثير حسب رأي بورديس “نحن بحاجة إلى خطة استثمار على المستوى الأوروبي في مجال الذكاء الاصطناعي، وكذلك فيما يتعلق بقدرة الحوسبة”.
الحاجة إلى المزيد من الاستثمارات الحكومية، هذا ما يراه فيليت أغيون أيضا، أستاذ الاقتصاد في جامعة باريس- INSEAD وكلية الاقتصاد بجامعة لندن والمساهم في إعداد تقرير الذكاء الاصطناعي للحكومة الفرنسية. ويقول أغيون لـ DW: “هذا القطاع يمكن أن يحقق زيادة سنوية في النمو الاقتصادي تقدر بـ 0,8 بالمائة خلال السنوات العشر القادمة” ويضيف “لكن من أجل ذلك تحتاج فرنسا إلى سياسة صناعية ويجب أن تستثمر 25 مليار يورو على الأقل”.
هل ستحصل أوروبا على جزء من كعكة الذكاء الاصطناعي؟
الباحث وخبير الذكاء الاصطناعي نوح غرين يؤمن أيضا بإمكانيات الذكاء الاصطناعي، لكنه ليس متأكدا فيما إذا كانت أوروبا ستستفيد منه بشكل كبير، ويوضح بأن “الولايات المتحدة تتبع سياسة عدم التدخل وتضع أقل من يمكن من العراقيل، من أجل إنشاء قطاع قادر على المنافسة. على العكس من ذلك، تريد أوروبا أن تصبح بطل تنظيم الذكاء الاصطناعي، لحماية الحقوق الأساسية”.
وقبل أيام قليلة (21 مايو/ أيار 2024) أقرت دول الاتحاد الأوروبي بشكل نهائيما يسمى بقانون الذكاء الاصطناعي، الذي يحظر من بين أمور أخرى تطوير بعض التطبيقات التي تصنف على أنها خطيرة. “لكن، فقط حين يكون لدى المرء منتجاته الخاصة به يستطيع أن يقرر كيف يمكن استخدامها من قبل الأنظمة المستبدة”، يقول غرين.
لكن بالنسبة إلى خبيرة الذكاء الاصطناعي فيرونيك فينتوس، فإن هناك عامل واحد هو مفتاح نجاح قطاع الذكاء الاصطناعي الفرنسي والأوروبي، “فبدلا من محاولة مواكبة الكبار مثل غوغل، الذين هم بمستوى مختلف تماما فيما يتعلق بتخزين البيانات، ينبغي علينا التركيز على نقاط قوتنا، كما في فرنسا.