واشنطن والتدخل في شؤون الدول.. الصندوق الوطني للديمقراطية NED مثال صارخ
سنان حسن
شكل التدخل في الشؤون الداخلية للدول سياسة راسخة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، بالاعتماد على وكالات الاستخبارات الأمريكية وفي مقدمتها الـ CIA التي جندت العملاء ومولتهم وساعدتهم في الوصول إلى أهدافها في الفوضى والسيطرة على مقدرات تلك الدول، ومع انكشاف الأدوار الاستخباراتية، في العديد من العمليات، برز إلى الواجهة شكل جديد من أشكال التدخل تحت ستار التنمية والديمقراطية، وقد ساهم رجال أعمال أمريكيين كبار في التصدي لدعم هذه المؤسسات وتسيير أمورها كما هو الحال مع جورج سوروس والمستمرة اليوم مع إليون ماسك، وغيرهم من رجال الأعمال الأمريكيين الكبار، وكانت أشهر تلك المنظمات الصندوق الوطني للديمقراطية (NED) الذي يعد بمثابة “القفازات البيضاء” لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
في عام 1983 تم إنشاء الصندوق الوطني للديمقراطية (NED) بدعم مباشر من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بهدف دعم ونمو التنمية الديمقراطية على نحو يتفق مع الاهتمامات الواسعة النطاق للمصالح الوطنية الأميركية، وفي 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1983، أقر الكونجرس قانون NED الذي أكد على أغراض NED وأوضح قضايا الدعم المالي واللوجستي، حيث قدم 18 مليون دولار أمريكي إلى NED. وعلى مدار أكثر من 40 عاماً، ارتفع الدعم بشكل مطرد، ووفقًا للبيانات الواردة من USAspending.gov، تلقى NED مخصصاً قدره 315 مليون دولار أمريكي في السنة المالية 2023. فيما كما كشف تقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أن جميع أموال NED تقريباً تأتي من الكونجرس الأمريكي، ولكن كيف يعمل الصندوق وكيف يتحرك؟.
يعمل الصندوق وتُدار برامجه تحت إشراف وزارة الخارجية الأمريكية والسفارات في الخارج، من خلال مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، ومع وكالة الإعلام الأمريكية والسفارات الأمريكية في الخارج بشأن المسائل البرمجية، كما يعد الصندوق الجهة المنفذة للعمليات السرية لوكالة المخابرات المركزية في العالم، حيث تم تسجيل تدخله في العديد من الدول وفي مقدمتها إيران وروسيا وكوريا الديمقراطية وكوبا وبلدان الشرق الأوسط، حيث عمد إلى دعم وتمويل الحركات المناهضة للحكومات التي ترفض السياسات الأمريكية، كما حدث في أوكرانيا عام 2004 حيث مول الصندوق مؤسسات ومنظمات أوكرانية معارضة بأكثر من 65 مليون دولار، كما أن عمل الصندوق لم يتوقف عند الدول التي تسير بعكس سياسة واشنطن، بل تدخل في الشؤون الداخلية للشركاء (دول الاتحاد الأوربي) مثال، حيث عمل على دعم القوى التي تدعم التواصل عبر ضفتي الأطلسي، وحارب القوى السياسية الأوروبية التي تطالب باستقلالية استراتيجية عن الحليف الأمريكي، وساهم الصندوق بشكل مباشر في تنفيذ السياسات الاستراتيجية الأمريكية الرئيسية ولاسيما فيما يتعلق بروسيا والصين، حيث كان لهاتين الدولتين نصيب كبير من عمل هذا الصندوق ففي الصين مثلاً: دعم القوى الانفصالية “لاستقلال تايوان، ففي تموز/ يوليو 2023، ذهب رئيس NED دامون ويلسون إلى تايوان للاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس مؤسسة تايوان للديمقراطية، وقدَّم “ميدالية خدمة الديمقراطية” إلى تساي إنغ ون.
والتواطؤ مع قوى مزعزعة للاستقرار معادية للصين في هونغ كونغ. من خلال توفير الأموال والدعم العام، كما رشحت جيمي لاي تشي ينغ، أحد العناصر العازمة على زعزعة استقرار هونغ كونغ، لجائزة نوبل للسلام لعام 2023.
والأمر عينه عندما دعمت NED منظمة “المؤتمر العالمي للأويغور” المناهضة للصين، بتمويل سنوي متوسط يتراوح من 5 ملايين دولار أمريكي إلى 6 ملايين دولار أمريكي، كما قدمت NED الدعم المالي لهيدايت أوغوزهان، زعيم “رابطة التعليم والتضامن في تركستان الشرقية”.
كما قاد رئيس NED دامون ويلسون وفدًا من NED إلى دارامسالا، الهند، للقاء قادة “استقلال التبت” وإظهار الدعم لأنشطة “استقلال التبت”. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، منحت NED جائزة الديمقراطية للشجاعة الفردية لجيجمي جياتسو، وهو ناشط من أجل “استقلال التبت”.
من خلال ما تقدم يمكن الجزم بأن الصندوق الوطني للديمقراطية NED ذراع واشنطن الناعمة لنشر الفوضى وزعزعة استقرار الدول وخرق سيادتها الوطنية تحت ستار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وهذا ما يشكل خرقاً لكل المواثيق والمعاهدات الدولية التي تمنع التدخل في شؤون الدول تحت أي مسمى، ويدفع باتجاه المطالبة بمواجهة هذه الممارسات غير الأخلاقية والبعيدة كل البعد عن نشر الديمقراطية والتنمية في تلك الدول.
إن سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية هو خط أحمر في العلاقات الدولية، وكل دولة حريصة على تطبيق النهج الذي تراه مناسباً لشعبها بعيداً عن أي ضغوط أو ممارسات تحت أي شعار أو ذريعة، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أن تعي أن العالم يتغير ويتبدل، وأن الممارسات التي كانت سائدة في زمن القطب الواحد باتت مكشوفة للجميع بما فيهم الأمريكيين أنفسهم الذين انتقدوا هذا النهج وأدانوه، فهل تعي واشنطن أن العالم تغير؟
إن العالم يتجه نحو التعددية القطبية، ولا بد من تعزيز الديمقراطية في العلاقات الدولية. ولكل دولة الحق في إتباع مسار التنمية المناسب لواقعها الوطني واحتياجات شعبها. ولا يجوز لأي دولة أن تلقي محاضرات على الآخرين بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك عن استخدام الديمقراطية وحقوق الإنسان كذريعة لانتهاك سيادة الدول الأخرى والتدخل في شؤونها الداخلية وإثارة المواجهة الإيديولوجية. وفقًا للقيم المشتركة للإنسانية المتمثلة في السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، يجب على أعضاء المجتمع الدولي الانخراط في التبادلات والحوار على أساس الاحترام المتبادل والمساواة، والعمل معًا للمساهمة في تقدم الإنسانية.