من وحي كلمة القائد الأسد أمام مجلس الشعب
ما كان لرئيس أن يكون على كل هذا القدر من الوضوح والشفافية كما كان القائد الأسد قبل يومين في مجلس الشعب.. لقد حاول سيادته أن يهز بعنف واقع التكاسل الفكري والأخلاقي الذي تراكم على نحو غير مسبوق، بعد عاصفة الحرب، والذي قد يتحول بالتدريج إلى قوة معطلة، أو “مخمدة”، أو إلى تهديد للمستقبل السوري.
لم يكن هناك اختلاف عن كلمات وخطابات سيادته إلا في تلك الجرعة العالية من المكاشفة التي طالما ميزتها على كل حال.. لقد جاء خطاب افتتاح الدور التشريعي الرابع بمثابة دعوة، ونداء ملحّ، وصرخة لـ “تقبل” و”تفهم” و”الاعتراف” بالحقائق والمعطيات التي يتحرك فيها عالم اليوم، وسورية جزء منه.. جاء مناشدة مسؤولة لتغيير نهج التفكير السائد الذي بات عائقاً أساسياً أمام أي محاولة للخروج من المراوحة الراهنة، والذي قد يضعنا جميعاً – في سياق علاقة جامدة مع “الدولة الأبوية” – بمواجهة حالة استعصاء قد تسلبنا القدرة على الاختيار مع تقدم الوقت، وقد تطيح بمستقبلنا إن لم نمتلك الشجاعة الكافية للانخراط فورياً في حوار موضوعي وواع ومسؤول حول قضايا مصيرية تمس كل السوريين.. بعيداً عن أية التفافات يمكن أن تفسر كنوع من الإرجاء، أو التأجيل، أو الهروب إلى الأمام، أو تقاذف المسؤولية، أو التعطيل؛ فليس من المنطقي أن نطالب بالإبداع ونرفض التفكير من خارج الصندوق، ولا يمكن أن نطالب بالتطوير وندير ظهرنا للتغيير.
شدد الرئيس الأسد على ضرورة التسلح بالنهج، ومقاربة القضايا الوطنية بتفكير جدلي يتغلغل في عمق الواقع لاكتشاف حقائقه، بل وتقلباته وتناقضاته، عبر الزمن وفي الممارسة العملية، وليس إخفاءه أو التعامي عنه أو إنكاره خلف غلالة سميكة من القداسة المزيفة أو التكاذب “الشعبوي”.. نهج يرود ويستكشف ولا يعيد التمركز حول الذات.. يمضي إلى صلب الأشياء ولا يدور في فلك الماضي ليجعلنا رهائن وضحايا مجانيين له؛ فليس هناك مطلق في الحياة، و”سورية تغيرت تغيرات جذرية لا حدود لها.. كل شيء تغير”، كما حذّر سيادته.
ما من تشخيص أكثر جرأة من القول بأن “الأزمات الاقتصادية الحادة هي حالة نقص مناعة غير ظاهرة للعيان، وتأتي الحروب لتظهر هذه الحالة من الضعف وحدّتها”.. ولكنها جرأة لا تتوقف عند حدود التشخيص، بل تتجاوز ذلك لتطلق دعوة – ربما أخيرة – لتغيير تاريخي مع الاستعداد لتحمل نتائجه.. تغيير بات يتطلب، في اللحظة الراهنة، عودة حقيقية إلى الذات، والتدقيق في مفاهيم ومحرمات جرفتها تطورات العقود الماضية، واكتسحتها ضرورات الانتماء إلى هذا العصر.. مفاهيم كانت بناءة وإيجابية فيما مضى، ولكنها قد تكون صماء ومعيقة اليوم، بل وتجاوزتها احتياجات “الملحمة” السورية – التي ينبغي أن تستمر من جيل إلى جيل – بما هي خصوصية صنعت نفسها عبر الكرامة الوطنية والاعتماد على الذات والدور الريادي والقرار المستقل.
لابد من مراجعة أدوات التحليل التي عفا عليها الزمن، ولا بد من إطّراح تصورات كثيرة لم تعد تعمل إلا على تكريس واقع مأزوم، وإعادة إنتاج السلبيات بشكل دوري؛ ذلك أن أعراض “نقص المناعة” تتجاوز عملياً تداعيات الحرب، لتعود بنا إلى مجموع السياسات التي تراكمت عبر عقود، مع التأكيد على أن ما هو خطأ اليوم لم يكن كذلك فيما مضى، وأن ما كان إيجابياً في مراحل سابقة قد لا يكون كذلك اليوم.. والمهم هو القابلية ومن ثم الجاهزية للتفاعل مع الواقع واستيعاب ديناميكيات التغيير التي لم تعد تقف عند حدود وجودنا الخاص، سواء أردنا ذلك، أم لا!!
لقد رسم الرئيس الأسد الأفق وترك للسوريين حرية مهره بموافقتهم وإجماعهم عليه، كما وضع مفردات، كالحصانة والرقابة والمحاسبة والأداء والإنجاز والسلطة والمسؤولية، في مسار يتخطى ما كان قد لازمها، على الأقل خلال السجال الذي أثير حولها، قبل أسابيع، في سياق طلب رفع الحصانة عن بعض أعضاء مجلس الشعب. كما جاء مفهوم “الثقة العامة” ليذكّر بالحدود الواسعة – والهشة في الوقت نفسه – للصفة التمثيلية التي يتمتع بها أعضاء منتخبون، ولكن قد تضل بهم الطريق!!
دخل الرئيس الأسد في عمق التفاصيل، وكان دقيقاً إلى درجة أشبه بصياغة معادلات رياضية لا تترك مجالاً للاحتمال أو الشك.. كل فكرة، وكل إجراء، وكل مرحلة من التفكير، مدروسة ومنقحة وموضوعة في مكانها، بحيث لا تحتاج منا إلا لصدق العزيمة وامتلاك إرادة التغيير.
قدم الرئيس الأسد درساً عميقاً ومسؤولاً في فن القيادة والحكم، وفي المسؤولية الوطنية، مطمئناً بأن “الخيارات الصعبة لا تعني الاستحالة”.. و”لا تعني الانقلاب على سياساتنا.. ولا على التزامات الدولة تجاه المواطنين”.. أبناء شعبنا السوري!!