نحو منهجٍ جديدٍ للإعداد يواكب التجدد الموضوعيّ في حياة الأحزاب
الرفيق د. سومر صالح
مدير مدرسة الإعداد الحزبي المركزية
تعيش المجتمعات المعاصرة بيئةٍ معرفيةٍ واقتصاديةٍ مختلفةٍ عما كانت عليه منذ عقود قليلة، فرضّت أنماطً تعليميةً وسلوكيةً وقيميةً مختلفة نسبياً عما كانت، مثّلت إكراهاتٍ في عمل الأحزاب التقليدية، سيما ذات التسلسل البيروقراطي، لم يعد معها من جدوى اتباع ذات الأساليب في الإعداد والتثقيف السياسي والحزبي، وبقاؤها قد يتحول إشكاليةً في مرحلة (التجدد الموضوعيّ) في الأدوات والرؤى والبنى، والتي تستلزم مواكبة الإعداد الحزبيّ لتلك التغيرات وفهمها ليتم عكسها على القواعد الحزبية من خلال مراحل الإعداد المتسلسلة، هنا تصبح مسألة الإعداد مواكبةً وموازيةً لمراحل التجدد وجزءٌ منها، فالتجدد الموضوعيّ في عمل الأحزاب وبناها التنظيمية والفكرية، يستوجب إعداداً موضوعياً للأطر التي ستواكب وتقود مرحلة التجدد، هذا الإعداد يجب أن يراعي ظرفين رئيسين: الأول طبيعة التجدد الحزبي ذاتها والضرورية لديمومته والحفاظ على منجزاته، وما يرافقها من تساؤلاتٍ ومخاوفٍ وبحثٍ عن أدواتٍ ملائمة، والظرف الثاني متعلقٌ بالأطر الدارسة ذاتها، والتي اختلفت طرق تلقيها واستجابتها للمعلومة، والتفاعل معها وحتى فهمها، وتقييمها، وما كان ناجعاً في مرحلةٍ اعتمدت على التلقين والتعليم وإكساب المعرفة تثقيفاً، لم تعدّ راهناً ناجعةً وربما قد تأتي بنتائج عكسيةً وتعزز (الخطأ في إعادة بناء المعرفة)، فالعالم يعيش مرحلة ما بعد الحقيقة، واللحظية، والاستهلاك المعرفي للمعرفة الجاهزة، والتشكيك، وتزييف الوعي والانتماء والهوية..، وهذا يفرض تحدياتٍ على عملية الإعداد التي تستوجب نظريةً معرفيةً جديدةً تنتج أدواتٍ معاصرةٍ تعزز من عملية المعرفة، وتحقق أهداف الإعداد بشكلٍ سلسلٍ غير مستفزّ للدارس، لنصل إلى مرحلة (فهم العقيدة ذاتياً) التي تساهم في انتشارها، وعليه تصبح مسألة اختيار نظرية مناسبة للإعداد هيّ البداية السليمة لإعدادِ موضوعيٍّ فاعلٍ ومؤثرٍ، وهنا يمكن الاستفادة من علم النفس التربوي في اجتراح نظرية إعدادٍ حزبيٍّ مناسبة، من خلال فهم نظرية التعلم، باعتبارها مجموعةً من النظريات التي وُضعت في بدايات القرن العشرين واستمر تطويرها حتى وقتنا الراهن، بدأت مع المدرسة السلوكية (Behavioral theory) 1912 م في الولايات المتحدة، واعتمدت على افتراضات مثل المثير والاستجابة، أيّ أنّ تغير السلوك هو نتيجةٌ واستجابةٌ لمثير خارجي، وافتراض التعزيز والعقاب، فتلقي الثناءات والمكافآت بصفةٍ عامةٍ يدعم السلوك ويثبته، في حين أنّ العقاب ينتقص من الاستجابة، وبالتالي ينقص من تدعيم وتثبيت السلوك، هذه المدرسة على أهميتها إلّا أنّها تزيد من مستوى الخوف وقد تحدث غضباً نرجسياً مستتراً في المستقبل، وما إن يزول مسبب الخوف حتى يتحول الغضب النرجسي إلى سلوكٍ معادٍ أو متمرد، وفي حالة الأحزاب، تغدو هذه مسألةً كارثيةً في الإعداد..، لاحقاً ظهرت المدرسة الغشتالتيه (Gestalt ) وهو لفظٌ ألمانيٌّ يحيل إلى علم النفس الشكليّ، وضعته مدرسة برلين، والتي رفضت ما جاءت به المدرسة الترابطية من أفكارٍ حول النفس الإنسانية، ويعتقدون بالمبدأ الكليّ للدماغ، فعمله متوازٍ ومتماثل، وأنّ مجموع كلّ الأجزاء أقلّ من أداء الكل، فالكل العقليّ له معنىً مختلفٌ عن الأنساق المعرفية المكونة له، وتفترض الشكلية أنّ الدافعية الأصلية للتعلم ينبغي أن تكون نابعةً من الداخل، ويتحقق التعلم عند تحقق الفهم، الذي يبلغ منتهاه مع عملية الاستبصار والتي تتطلب فهم كلّ الأبعاد ومعرفة الترابطات بين الأجزاء وضبطها، والحقيقة أنّ هذه المدرسة مهمةٌ في الإعداد النفسيّ والذهنيّ لمتطلبات فلسفيةٍ، ولكن ليست لمتطلباتٍ سياسيةٍ متغيرةٍ برغماتية، كعمل الأحزاب.
معاصراً نشأت نظرياتٌ جديدة في التعلم، أبرزها: الترابطية التواصلية (Connectivism theory) والبنائية، ففي عالمٍ رقميٍّ وواقعيّ في آنٍّ، يضم جوجل وسيري وأليكسا وغيرها من مساعدي المعلومات الرقمية، أصبح الناس يعتمدون على التكنولوجيا للبحث عن الإجابات والعثور على المعلومات سريعاً، قبل عقدين تقريباً كان الدارسون يلجؤون إلى الموسوعة التقليدية للحصول على الإجابات، أمّا الآن فيمكنهم ببساطةٍ طرح السؤال على هواتفهم الذكية أو كتابة السؤال في جوجل أو Chat gpt، تعدّ نظرية الاتصال نظرية جديدة نسبيًا في التعلم، تقبل أنّ التكنولوجيا تشكل جزءًا رئيساً من عملية التعلم، وأنّ التعلم هو عملية اتصالٍ تعزز التعاون الجماعي والمناقشة، والتعلم هو أكثر من مجرد بناءٍ داخليّ للمعرفة، بل إنّ ما يمكننا الوصول إليه في حياتنا الخارجية يُعتبر أيضًا تعلمًا، بالتالي تعزز نظرية الاتصال التعلم الذي يحدث خارج الفرد، ورغم مساوئ تلك الطبيعة في التعليم ومنها تعزيز التحيزات العقلية والمعرفية، إلّا أنّها أصبحت واقعاً لا يمكن القفز عنه، وسنعود له في خاتمة هذا المقال للاستفادة منه.
الآن وبعد استعراض أهم النظريات التعليمية نأتي للنظرية التي تشكل باعتقادي المنهج الأكثر شمولاً في عمليات إعداد الدارسين وهيّ النظرية البنائية Constructivism Learning Theory))، والتي تؤكد على الدور النشط للدارسين في بناء فهمهم الخاص ،فبدلاً من تلقي المعلومات بشكلٍ سلبيّ، يستحضر المتعلمون تجاربهم، ويخلقون تمثيلاتٍ ذهنية، ويدمجون المعرفة الجديدة في أفكارهم مما يعزز التعلم والفهم العميق، أسس هذا المنهج الفرنسي جان بياجيه، يشارك الأفراد في هذا النهج بشكلٍ واعٍ في بناء فهمهم، فالتدريس البنائي يعتقد بأنّ التعلم ينجح عندما يشارك المتعلمون بفعاليةٍ في عملية بناء المعرفة والمعنى بدلاً من تلقي المعلومات بشكلٍ سلبيّ لا فاعل، فالبنائية تناقض وجهة النظر السلبية للتدريس والتي تنظر إلى المتعلم والدارس باعتباره “إناءً فارغًا” يجب ملؤه بالمعرفة، في حين تنص البنائية على أنّ المتعلمين يبنون المعنى فقط من خلال معارفهم وتجاربهم، فالتعلم هو نشاطٌ اجتماعيٌّ متعلقٌ بالتفاعل مع بعضنا البعض، وليس مفهومًا مجردًا، والمجتمع يلعب دورًا محوريًا في عملية “صنع المعنى”، وبالتالي يتمتع كلّ متعلمٍ ودارسٍ على حدّة بوجهة نظرٍ مميزة، بناءً على المعرفة والثقافة الموجودة لديه، ومع إدراك الدارس لكلّ تجربة جديدة، سوف يقوم بتحديث نموذجه العقليّ بشكلٍ مستمرٍ لتعكس المعلومات الجديدة، وبالتالي، سوف يقوم ببناء تفسيره الخاص للواقع وفهمه له، وعادةً ما يتم تقسيم البنائية إلى ثلاث فئات: البنائية المعرفية، المبنية على أعمال جان بياجيه ، والبنائية الاجتماعية، المبنية على أعمال ليف فيجوتسكي، والبنائية الجذرية، تنصّ البنائية المعرفية على أنّ المعرفة هيّ شيءٌ يبنيه المتعلمون بناءً على أنساقهم المعرفية الموجودة، وبالتالي، فإنّ التعلم نسبيٌ لمرحلة تطورهم المعرفي، أمّا البنائية الاجتماعية، فتعتقد أنّ التعلم هو عمليةٌ تعاونية، وتتطور المعرفة من خلال تفاعل الأفراد مع ثقافتهم ومجتمعهم، أمّا بالنسبة للبنائية الجذرية التي وضعها إرنست فون جلاسرسفيلد (1974) فهي تنصّ على أنّ المعرفة يتم بناؤها بدلاً من إدراكها من خلال الحواس، وعليه فالواقع ذاتيّ ومتطورٌ باستمرار، وليس هناك حقيقةٌ موضوعيةٌ واحدة، لذلك، تنطلق البنائية بأنّ التعلم لن يتم بناءً على ما سمعه المتعلم والدارس من المحاضر، حتى ولو حفظه وكرره المحاضر مراراً، بل بناءً على النسق العقلي النابع من التجارب والمعارف السابقة للمتلقي، وهنا تصبح مهمة الإعداد السليمة في ثلاث مترابطة متسلسلة وهي: تهيئة بيئة التعلم، وزيادة معارفه ومعلوماته، وأخيراً تنمية المدارك العقلية للدارس، وهنا لابدّ من العودة إلى النظرية الترابطية الاتصالية لتوظيفها في فهم الدراس لمحيطه من خلال التواصل الرقمي، فتصبح البناءة التواصلية منهجاً ونظريةً للتعلم والإعداد بروح العصر، تمكن الأحزاب من بناء مناهج إعداد معاصرة تراعي طبيعة المجتمع والعصر، والتفرد العقلي في الفهم، في محاولة بناء أطرٍ قياديةٍ قادرةٍ على الاستجابة لمتطلبات العمل الحزبي بمرونةٍ وفاعليةٍ في بيئتها الاجتماعية والحزبية.
ختاماً، مسألة الإعداد الحزبي ليست مسألة تعليمٍ وتلقينٍ وتكثيف معلومات، بل هيّ بناءٌ عقليٌّ، تواصليّ، يهدف لإعادة إنتاج الدارس لفهمه حول مواضيع الدارسة، تأسيساً على معارفه السابقة أو تصوراته المسبقة عنها، وهنا يصبح الإعداد عاملاً في إعادة بناء أو إعمار الفهم الذاتي عبر معارف جديدة بأساليبٍ إبداعية، تنميّ الوعي وتزيد من مساحات الإدراك، وتقلل من التحيزات النفسية والعقلية.