كان يا مكان…
حين حزمت حقائبي ودخلت مغامرة إلى دمشق، لم يكن لي فكرة عن سورية المعاصرة، إلا صورتين مشهد تلفزيوني من جنازة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ووجه أبي الحزين على فقدان آخر الزعماء العرب.
أضع حقيبة ظهري على صدري وأهيم في الشوارع الضاربة في التاريخ، تعرفت بعد مرور أيام قليلة على سوريين (مثقفين).. نتحدث عن أبسط الأشياء وأهم القضايا، نجتمع في المقاهي والمطاعم والمازارت والبارات ودور العبادة والسينما والأزياء، إلى أن وجه لي أحدهم يوما ملاحظة، قال: “لماذا تضعين حقيبة ظهرك على صدرك”؟! احمر وجهي وتطاير الشر من عيني، أجبت: وما دخلك أنت؟ أوقفني بتروي: “لم أقصد احراجك.. كل مرة نجتمع فيها أراك على هذه الصورة”. قلت: لأني أخاف أن يفتح “حرامي” حقيبتي وهي على ظهري فيسرقني. ضحك باستخفاف: “ماذا لا يوجد لدينا مثل هذه الظاهرة، يمكنك لبس ووضع ما تشائين هذه سورية بلد الأمان. كنت أعد شوارع دمشق يوما، وإذ بي أرى تجمعا كبيرا، للحظة تخيلت الحكواتي أو بياع الفرجة، اقتربت قليلا، رجلان يتعاركان على “صفة” سيارة، لم يتلاسنا بالكلام الوضيع ولا اشتبكا بالأيدي، بل كان كل منهما يقول للأخر: يا حبيبي يا عينيي ما بيصير هذا الحكي!! قلت في نفسي: “لو كانوا ببلد آخر لاقتتلا ودخل أحدهما السجن والآخر الى المستشفى او المقبرة!!
في سورية، تُفتح الأبواب للجميع، كنت كلما دخلت إلى الحارة، يدعوني الجميع لشرب القهوة: أم جورج، علي، أبو أحمد، أم الياس.. يقولون نفس العبارات: “حولي.. تفضلي لعنا.. أمانة تمرقي لعنا..” إلى آخره من سبل المعشر الحسن.. من روائع سلوكيات الشعب السوري، الاحترام وطيب المعاملة والكلام المعسول، مع الزوجة والأبناء والأقارب والجار والغريب والزميل..وخاصة الأم حتى أنه يقال في قالب فكاهي “السوري يتزوج أربعة نساء، ولكنه يحب أمه”!!
حلت الحرب على سورية، مع الوقت ومن دون الدخول في تفاصيل ما جرى، تغير طباع أهل هذا البلد، أقول سورية لأن دمشق ككل عواصم العالم تجمع كل المحافظات أو الولايات. أستقل الحافلة يوميا للذهاب إلى عملي، ألقي تحية الصباح على السائق، والصدمة أنه لا يرد بمثلها يأخذ النقود مني وكانه يسحبها عنوة يعطيني التذكرة دونما أن يراني! مع ان هذا السائق هو نفسه الذي كان يشغل الراديو كرما لعيون الزبائن فيسمعهم “فيروز” وهو الذي كان يتبادل أطراف الحديث مع الجميع، حتى أن من لا يدفع له لا يفتعل معه مشكلة، أما اليوم فما عدا بمقدوره تحمل أي تصرف مثل هذا النوع، أما سائق التاكسي فله حكاية أخرى.. لا يستعين بالعداد ويطلب معرفة الوجهة وكم ستدفع قبل أن تصعد سيارته، وعليك بتحمل رائحة سيجارته “الرخيصة الثمن”. لم يعد هذا السائق السوري كمعظم السائقين يسأل عن رأيك اذا كنت توافق على التدخين أولا، قبل الأزمة كان يقدم لك سيجارة عل سبيل “الضيافة”.. أما اليوم فهو سينزلك في أي مكان يريده هو لأسباب متعلقة به شخصيا أو لأسباب أمنية أو بسبب ازدحام السير.
أعود للحارة خائبة الرجاء من سائقي التاكسي والحافلة، لا نسوان ولا رجال في “أرض الديار” التي كانت لا تغلق إلا في ساعات الليل المتأخرة جدا، الكل يقف في طوابير بشرية اما امام اللجان الشعبية أو الفرن أو بياع الغاز أو المازوت أو امام بياع الخضر، ابتسم حين اراهم ألقي التحية، يردون بمثلها ولكنها باردة من بئر عميق، مليء بالوحدة والاهمال وقسوة الطبيعة.. حتى الجيران الجدد الذين هجروا من بيوتهم ينظرون الي بغرابة وحتى أصحاب الحي ينظرون أيضا اليهم بنفس الطريقة، هكذا بتنا كلنا غرباء أجانب، يتصيد كل منّا الآخر!
البعث ميديا- سلوى حفظ الله
ذكريات دافئة تضع تماما الملح على الجرح ..مع اسلوب سردي شيق
مقال جميل نابع من القلب هذه هي دمشق نتمنى ان تعود بمحبتكم وهمة ابنائها قبلة للعرب وغير العرب