مساحة حرة

النار السـورية في صناديق الاقتراع التركية

لا يمكن وصف الانتخابات البرلمانية التركية إلا بأنها مصيرية وحاسمة بالنسبة إلى «السلطان» رجب طيب أردوغان وحزبه، وما بعد الانتخابات لن يكون كما قبلها سواء إنْ كان عبر سيطرة أردوغان المطلقة على الدولة، وتحويل نظامها إلى رئاسي، أم اضطراره إلى عقد تحالفات مع أحزاب أخرى…

ورغم أن هذه الانتخابات شأن داخلي تركي إلا أن تأثيراتها في الخارج التركي كبيرة جداً بسبب تدخلات حكومة أردوغان الفاضحة في شؤون دول الجوار خاصة ودول الإقليم عامة ما قد يجعل نتيجة الانتخابات مؤثرة في السياسة الخارجية التركية بشكل مباشر لأن ورقة السياسة الخارجية كانت أهم ورقة في التجاذبات السياسية بين مختلف الأحزاب التركية طوال الفترة الماضية وما دفعته تركيا من أثمان باهظة مقابل السياسة الحمقاء لحكومة أردوغان وأحمد داوود أوغلو وتوريطهم تركيا في حروب إرهابية لها أول وليس لها آخر.

من هنا يبدو جلياً أن أول ما سيتغير نتيجة هذه الانتخابات هو السياسة الخارجية لتركيا، التي انتقلت من مبدأ «صفر مشاكل» إلى «صفر علاقات» مع الجيران، ولاسيما بعد توريط أردوغان لتركيا في سورية والعراق وقضايا إقليمية أخرى مثل مصر وغيرها من الدول الأخرى، وهو ما أثر سلباً في الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في تركيا, وفعلاً لم تستمر سياسة أردوغان طويلا على مبدأ «صفر مشاكل» مع الآخرين وتحولت إلى «صفر علاقات» مع الجميع وخاصة مع سورية التي نالها النصيب الأكبر من أذى «السلطان العثماني» الجديد وسياسته الإرهابية وأحلامه المريضة في محاولات هيمنته على سورية أو تدميرها عبر عصاباته الإرهابية إن لم يتحقق له ذلك.

لقد جرت الانتخابات البرلمانية التركية السابقة قبل أربع سنوات وكانت الأحداث في سورية في بدايتها وكان تدخل حكومة أردوغان فيها شديداً ولكن في الخفاء إلى حد ما, أما الانتخابات الحالية فتجري على وقع تدخل أردوغاني مكشوف ودعم سافر لكل أنواع الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في سورية, ومابين الانتخابات السابقة والانتخابات الحالية سقط الكثير من أحلام أردوغان الإمبراطورية ولاسيما مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي اعتمد فيه على وصول «الإخوان المسلمين» إلى رأس السلطة في مصر ولم يعمروا طويلاً وسقطوا بسرعة وإلى غير رجعة, وعاد ليراهن على أشد التنظيمات الإرهابية تطرفاً مثل «داعش» و«جبهة النصرة» للتعويض عن خسارته المدوية في مصر مركزاً على سورية ولتحقيق هدفين دفعة واحدة: الأول تصدير أزماته الداخلية المتفاقمة مع الشعب والمعارضة إلى الخارج, والثاني الظهور بمظهر «البطل» الطوراني القومي والمقلد للسلاطين السلاجقة الفاتحين كي يسهل عليه الانتقال بالنظام السياسي التركي من «البرلماني» إلى «الرئاسي» عبر الانتخابات الحالية والقبول به «سلطاناً» مطلق الصلاحية على العباد والبلاد في السلطنة التركية التي يحلم بها.

من اللافت للنظر أن أردوغان فقد أعصابه في هذه الانتخابات ووصل إلى حد الهستريا وهو يقود شخصياً وبنفسه حملة الدعاية لحزبه فيها مخالفاً مخالفة صريحة دستور البلاد الذي يحظر على رئيس الجمهورية ذلك, ويلزمه بالحياد وأن يكون على مسافة واحدة من الجميع وانحدر أردوغان في خطاباته إلى مستوى منحط عندما استخدم عبارات سوقية وكلمات بذيئة ووصف معارضيه بأوصاف فاجرة يخجل المرء من ذكرها, وأراد أن يحرك الغرائز العرقية والدينية والطائفية والمذهبية, ويذكّر «بأمجاد» إمبراطورية الرجل المريض لاستقطاب أصوات المتعصبين قومياً وتحريضهم على التيارات العلمانية في تركيا, ومهما كانت نتيجة هذه الانتخابات فإن خطابات أردوغان التي كانت على الدوام مثيرة للاشمئزاز ودليلاً على عقلية رجل أحمق مهزوز ومعتل فهي في موسم الانتخابات الحالية ستترك جروحاً عميقة من الصعب أن تندمل لسنوات طويلة بعدها.

الأرعن أردوغان فضح نفسه في هذه الانتخابات فهو لشدة خوفه من النتيجة بدا عصبياً ومهزوزاً نفسياً في خطاباته التي ألقاها في الحملة الانتخابية وراح يتخبط يميناً ويساراً ويكيل التهم والسباب لخصومه جزافاً, وكما هو واضح، فإن أردوغان في تركيا بات ضائعاً وعقارب ساعته متوقفة عند الماضي المنبوذ لسلطنته العثمانية وتركتها السيئة السمعة وهو لم يعد يعرف حدوداً للزمن فهو تائه بين سحر التاريخ وأوهام الماضي وإغراءات «المجد» والهيمنة، وحرير الحرملك, ولهذا صار مشروعه الخيالي يتلاقى مع المفهوم الصهيوني التلمودي بـ«خراب» دمشق و«دمار» مصر، و«تلاشي» بلاد ما بين النهرين، ويتكامل مع المشروع الوهابي السعودي بتفتيت الدول حولها، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي كلها، التي لم ترفع صوتها حتى الآن ضد آل سعود، بحكم هيمنتهم وجبروتهم، حيث أطماع بني سعود بها لا تنتهي، وها هي وحشيتهم تظهر على حقيقتها بتدمير اليمن حجراً حجراً، من دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق أو شعور إنساني.

في الانتخابات الحالية تبدو الأزمة في سورية الأكثر تأثيراً في أردوغان وحزبه فولوغه في الحرب الإرهابية ضد سورية لم يعد سراً, وفضائح مخابراته في إرسال قوافل شاحنات الأسلحة العابرة للحدود إلى العصابات الإرهابية في سورية باتت حديث الصحف التركية والرأي العام التركي, وما نقلته مؤخراً صحيفة «جمهورييت» التركية من أدلة دامغة أربك البرنامج الانتخابي لأردوغان وحزبه وخفض من شعبيتهما وأعطى المعارضة ورقة مضادة قوية وهذا ما حدا بزعيم حزب «الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو إلى الإعلان أن حكومة (العدالة والتنمية) مسؤولة بشكل مباشر عن دماء كل السوريين الذين راحوا ضحية الحرب الدائرة على سورية، متهماً الحكومة التركية بالتحالف مع قطر والسعودية لتدمير سورية، وقتل شعبها عبر دعم الجماعات الإرهابية، مشيراً إلى أن ما حصل جاء انطلاقاً من مقولات، وسياسات طائفية، ومذهبية، متسائلاً: (عن أي إسلام يتحدثون والعصابات الإرهابية تدمّر المساجد والأضرحة؟)، ولاقى صلاح الدين ديميرطاش الرئيس المشارك لحزب «الشعوب الديمقراطي» كلام كيليتشدار أوغلو متوعداً بمحاسبة أردوغان، وداوود أوغلو عن كل أفعالهما في سورية، محملاً إياهما مسؤولية ما وصلت إليه الأمور فيها من قتل ودمار وتخريب..

في النتيجة يرى المحللون أن أردوغان ما بعد الزلزال الانتخابي لن يكون كما كان قبله يحكمه الغرور والتعالي ومهما حصّل حزبه من أصوات, فلن يكون بعد الآن الآمر الناهي والحاكم المطلق ولن يستطيع في النهاية أن يمرر اندفاعه الجنوني نحو النظام الرئاسي وبعث روح السلطنة العثمانية البائدة, والحريق الذي أشعله في سورية سيرتد عليه وسيحرقه داخلياً وسيكون الجريمة الكبرى التي سيحاكمه عليها الشعب التركي وتحاسبه عليها حساباً عسيراً مختلف الأحزاب التركية التي توعدته بذلك في برامجها الانتخابية.

تركي صقر